جريدة

الدكتورة آمال بو حرب: الأخلاق والموروث الثقافي

د.آمال بو حرب- تونس

الإنسان كائن أخلاقي وهذا يعني أنه الكائن الوحيد الذي يطرح أخلاقه ويحاول أن يجعل سلوكه ينسجم مع القيم الاجتماعية حيث أنه يتعدى حاضره ليتطلع إلى الماضي والمستقبل البعيد في آن واحد وهذا ما قصده الفيلسوف الألماني هيدجر عندما قال: ” الإنسان كائن ذو أبعاد” بالإضافة إلى ذلك يتميز الإنسان بطبيعة مزدوجة ممزوجة بين العقل والعاطفة وروح وجسد يطمح إلى المطلق في نفس الوقت الذي يخضع فيه للزمان والمكان وإن كانت هذه الثنائية الميتافيزيقيا هي التي جعلت الإنسان كائنا أخلاقيا خلاف الحيوان الذي لا يعرف الأخلاق لأنه يعيش في الحاضر وبدافع من الغريزة فقط. ولكن ماذا نقصد بالأخلاق؟ هل هي تلك العادات الشائعة في المجتمع؟ أم هي تلك الأخلاق النظرية التي يحدثنا عنها الفلاسفة؟

نلاحظ أن كل مجتمع يعيش بنظام مجموعة من البنود والأوامر تختلف من مجتمع إلى آخر ومن عصر إلى آخر وما يسمح به هذا المجتمع قد لايسمح به مجتمع آخر وكذلك اختلاف العصور وتغير التقاليد والعادات الأخلاقية ليجعلها غير ثابتة فهذه الميزة تبين نسبيتها مما يجعل إلزامية التقيد بها واجبة حتى لايخرج الفرد عن هذا المسار فيقابل خروجه بالاستنكار من طرف المجتمع فالسلطة التي تتميز بها العادات الأخلاقية تدفع البعض إلى التمييز بين الأخلاق والعادات وقد تجلى ذلك في موقف المدرسة الاجتماعية التي تزعمها “دافيد دوركهايم” عالم الاجتماع الفرنسي والتي أكدت أن لكل مجتمع أخلاقه الخاصة ولا وجود لأخلاق مطلقة لا تتغير ولا تختلف باختلاف الزمان والمكان ويرى دور كايم أن الضمير الفردي الذي تعتمد عليه الأخلاق ليس سوى صد للضمير الجمعي والإلزام يصدر عن المجتمع في بداية الأمر ثم يتبناه الفرد فيصبح إلزاما فرديا، إلا أن الإلزام في شأنه إلزام اجتماعي وهذا ما يفسر لنا تغيره من مجتمع لآخر ومن عصر لآخر وينفي دوركايم وجود ضمير فردي فالفردية وهم ولا وجود لها في الواقع لأن الفرد يستمد إنسانيته ووجوده من المجتمع لكن هل يمكن أن نرد الأخلاق إلى مجرد ظاهرة اجتماعية؟ وهل يمكن أن نجعل الأخلاق عبارة عن دراسة للسلوك كما هو في الواقع؟

إن الأخلاق دراسة معيارية للسلوك أي دراسة السلوك كما يجب أن يكون لا كما هو في الواقع حيث اذا جعلنا الأخلاق دراسة للعادات الأخلاقية لأصبحت جزءا من السوسيولوجيا أو علم الاجتماع ولما كان هناك مبرر لدراسة الأخلاق خارج نطاق السوسيولوجيا فالإنسان عندما يرى مظهرا للتغير والتعدد لا بد أن له يتساءل فيما إذا كان يوجد خلف هذا التغير ثابت لا يتغير كما يتساءل فيما إذا كان يوجد خلف التعدد أو الكثرة مصدرا لتلك الكثرة. لهذا قال شوبنهاور: إن الإنسان حيوان ميتافيزيقي أي يطمح إلى إيجاد ثابت خلف ما يراه من تغير فهو يتساءل مثلا عن إله لهذا الكون أي عن سبب لا يتغير صدرت عنه جميع الأسباب وعلى الصعيد الأخلاقي يتساءل الإنسان عن وجود أخلاق نظرية أو ميتافيزيقا مطلقة خلف ما يراه من عادات أخلاقية تختلف من مجتمع إلى آخر ومن عصر إلى آخر ونقصد بالأخلاق النظرية تلك الأخلاق التي يحدثنا عنها فلاسفة الأخلاق والتي تتعلق بالقيم الأخلاقية كالخير والشر والعدالة والفضيلة بوصفها قيما مطلقة لاتتغير بتغير الزمان والمكان.

وقد يؤخذ على هذه الأخلاق أنها تتعدى كثيرا السلوك الإنساني الذي لا علاقة له بالواقع كما يعيشه الإنسان، كما يؤخذ عليها أنها تختلف من فيلسوف لآخر وأنها جزء من الفلسفة التي يدعو إليها الفيلسوف وإذا كان هذا الاعتراض مقبولا في حد ذاته فهل يجب نتيجة لذلك أن نقضي على الصلة القائمة بين الأخلاق والميتافيزيقيا؟ إن العلم اليوم يشهد باستمرار تقدما تكنولوجيا هاما ولكنه يشهد كذلك الحاجة الملحة إلى مزيد من الأخلاق لتوجيه هذا التقدم لخير الإنسان وسعادته وهذا يعني أن بالإمكان إقامة أخلاق نظرية تتعدى الواقع وتوجهه في نفس الوقت و ننتهي من كل ذلك إلى أنه لايمكن أن نرد الأخلاق إلى مجرد دراسة للعادات دون أن ننسى أن على الأخلاق أن توجه السلوك لأنها قبل كل شيء دراسة للسلوك الإنساني لا كما هو في الواقع وإنما كما يجب أن يكون.