جريدة

الانسحاب البرلماني بين الحق الدستوري وحدود التعطيل

جريدة أصوات

 أكدت المحكمة الدستورية في قرارها الأخير دستورية حق البرلمانيين في الاحتجاج عبر الانسحاب من جلسات مجلس النواب ولجانه الدائمة، مشترطةً أن يكون هذا الإجراء “مبرراً ومؤقتاً” للتعبير عن موقف سياسي مشروع. غير أن المحكمة حذرت في الوقت ذاته من تحويل هذا الحق إلى أداة تعطيل تُفرغ العمل البرلماني من مضمونه، مؤكدةً على ضرورة التوازن بين حرية التعبير السياسي وضمان استمرارية الممارسة الديمقراطية.

أوضحت المحكمة في حيثيات قرارها – الصادر عقب مراجعة تعديلات النظام الداخلي لمجلس النواب – أن الدستور لا يحظر صراحةً الانسحاب من الجلسات، معتبرةً أنه “جزء من التعبير السياسي المكفول للبرلمانيين”، ويعكس الطبيعة التعددية للنقاش البرلماني. لكنها شددت على أن هذا الحق ليس مطلقاً، بل يجب ألا يتحول إلى “بديل عن المشاركة الفعلية” التي تتجاوز الحضور الجسدي إلى الإسهام في النقاشات وتقديم المقترحات، تماشياً مع المبدأ الدستوري الذي يربط عضوية البرلمان بالمسؤولية والمصداقية.

رفعت المحكمة راية التحذير من إساءة استخدام الانسحاب، مؤكدةً أن عدم دستوريته تكمن حين “يفضي إلى تعطيل سير العمل البرلماني”. وهذا التقييد يعكس حرصاً على منع تحويل الآلية الاحتجاجية إلى أزمة مؤسسية، خاصةً أن النظام الداخلي لمجلس النواب – وفقاً للمحكمة – لم يقصر حق الانسحاب على المعارضة، بل وسعه ليشمل كل الأعضاء، مما يزيد من احتمالية تأثيره على الاستقرار التشريعي.

أبرز القرار إشكالية أخرى تتعلق بغياب الجزاءات التأديبية المرتبطة بالانسحاب في النظام الداخلي، حيث رأت المحكمة أن ذلك لا يشكل انتقاصاً من حقوق الأعضاء ولا تجاوزاً لصلاحيات المجلس، بل هو “امتداد للوظيفة الدستورية” في تنظيم العمل البرلماني. إلا أن هذا الطرح يفتح الباب أمام تساؤلات حول فعالية الضوابط الأخلاقية والسياسية في غياب آلية رادعة ضد الاستغلال السياسي لهذا الحق.

قرار المحكمة الدستورية يمثل محاولة لرسم مسار وسط بين ضمان حرية التعبير البرلماني وحماية المؤسسة التشريعية من التصدع. فمن ناحية، يكرس حقاً احتجاجياً مشروعاً في سياق الديمقراطية التشاركية، ومن ناحية أخرى، يضع سياجاً دستورياً ضد تحويله إلى سلاح تعطيل. بيد أن التحدي الأكبر يبقى في كيفية ترجمة هذه الضوابط على أرض الواقع، حيث تتداخل الاعتبارات السياسية والحزبية مع المقتضيات الدستورية، مما يستدعي وعياً جماعياً بقدسية الدور البرلماني وخطورة اختزاله في صراعات تكتيكية.