اكتسح حزب العمال البريطاني الانتخابات العامة المبكرة التي جرت يوم الخميس الماضي، وفاز بـ412 من أصل 650 مقعدًا في مجلس العموم، وكان ذلك على حساب خسارة تاريخية وغير مسبوقة لحزب المحافظين. العناوين المحتفية بتحوّل العمال إلى «ماكينة لحصد الأصوات» تحت قيادة زعيم الحزب كير ستارمر، تقارن النتيجة بهزيمة الحزب الأفدح في تاريخه في الانتخابات السابقة عام 2019، حين كان جيرمي كوربين زعيمًا للعمال. صعد ستارمر إلى زعامة الحزب بوعود لتوحيد صفوفه، لكن سرعان ما قام بحملة تطهير للتخلص من جناحه اليساري ورموزه الراديكالية، وعلى رأسهم كوربين نفسه الذي طرد من الحزب بعد اتهامات معاداة السامية. في مدة زعامته القصيرة نسبيًا قبل الانتخابات، أدار ستارمر الحزب بشكل هرمي من أعلى، فتعامل بحزم وقسوة مع أي محاولة للخروج على الخط العام لقرارات قيادات الحزب، سواء من النواب أو الأعضاء العاديين، وظهر ذلك بأوضح صورة في ملف غزة والذي قاد الخلاف حوله إلى سلسلة من الاستقالات والفصل من الحزب. الحكمة السياسية الرائجة هو أن الانتخابات البريطانية لا يمكن الفوز بها سوى من الوسط، ولذا ينسب فوز العمال الكبير إلى انزياح الحزب يمينًا نحو يسار الوسط. ذلك الانزياح الذي يفترض أنه كبح صعود اليمين المتطرف في بريطانيا، على عكس التيار العاتي في القارة الأوروبية.
لكن إعادة قراءة متأنية لنتائج الانتخابات قد تفضي إلى صورة مختلفة تمامًا عن العناوين الاحتفالية. فاز حزب العمال في الانتخابات الأخيرة بحصة متواضعة من أصوات الناخبين هي 33.90% ولم تتحسن حصة الحزب من الأصوات سوى بفارق متواضع مقارنة بحصته في الانتخابات السابقة بقيادة كوربين والتي كانت 32.10%. كان الإقبال المتواضع على التصويت في الانتخابات الأخيرة بنسبة 60% هو ثالث أدنى نسبة في التاريخ الانتخابي البريطاني. وفي الحقيقة فإن التحسن الطفيف في حصة حزب العمال من نسبة الأصوات، لا يعني أنه حصل على عدد أصوات أعلى من الانتخابات السابقة، بل ظلت الأصوات التي حصل عليها ثابتة تقريبًا. وكذا فإن أغلبية الحزب المريحة والتي وصلت 172 مقعدًا في مجلس العموم، ورغم أنها كبيرة جدًا لكنها لا تزال أقل من الأغلبية التي حظي بها الحزب في انتخابات 1997 بقيادة توني بلير، بـ179 مقعدًا.
ومع هذا، تظل نتائج الانتخابات قياسية لكن لأسباب أخرى. ففي التاريخ السياسي البريطاني، لم يخسر حزب 252 مقعدًا مثلما حدث للمحافظين، ولم يحصد الحزب الثالث على عدد كبير من المقاعد يصل إلى 71، مثل ما حققه حزب الديمقراطيين الأحرار. كان انهيار المحافظين متوقعًا من استطلاعات الرأي في الشهور الماضية، وذلك بعد 14 عامًا من الحكم، شهدت فوضى الخروج البطيء والمؤلم من الاتحاد الأوروبي، وإدارة كارثية لجائحة الكورونا، وتراجع للخدمات العامة وارتفاع مستويات التضخم وتهاويًا في مستوى الدخول الحقيقية، وسلسلة من الفضائح الحكومية كان آخرها رهان عدد من نواب الحزب الحاكم على موعد الانتخابات. لكن أسوأ تركة للحزب تمثلت في فترة حكم ليز تراس القصيرة، التي لم تتجاوز 49 يومًا، حيث تسبب إعلان حكومتها عن الميزانية التكميلية في هبوط الجنيه الاسترليني إلى أدنى قيمة له في تاريخه، وفي الليلة نفسها فقد الاقتصاد 30 مليار جنيه استرليني، وكادت منظومة المعاشات أن تنهار لولا التدخل السريع لبنك إنجلترا. وترافق ذلك مع قفزة هائلة في أقساط الرهونات العقارية، سيبقى أثرها على الأسر البريطانية لعقد على الأقل.
لم يكن فوز العمال الكاسح سوى حاصل للتصويت العقابي ضد المحافظين. ذهبت حصة 14 % من الأصوات إلى حزب الإصلاح اليميني العنصري المعادي للمهاجرين، بينما صوت 12% من الناخبين لصالح حزب الديمقراطيين الأحرار المنتمي ليمين الوسط، والذي ركز في حملته الانتخابية على انتزاع العدد الأكبر من مقاعد حزب المحافظين. وخصمت الأصوات التي ذهبت للحزبين الممثلان لأقصى اليمين ويمين الوسط، من حصة حزب المحافظين.
الحال أن النظام الانتخابي البريطاني مصمم لخدمة نظام الحزبين، أو ما يطلق عليه أحيانًا نظام الحزبين ونصف (بحساب حزب الديمقراطيين الأحرار نصف حزب)، ولذا النسبة العالية نسبيًا من الأصوات التي ذهبت إلى حزب الإصلاح لم تترجم سوى في عدد محدود من المقاعد لا يتجاوز 1% من مقاعد البرلمان، فاز بواحد منها نايجل فاراج زعيم الحزب، الذي يدخل للبرلمان البريطاني لأول مرة، وذلك بعد عدة محاولات سابقة فاشلة. ما تزال مكاسب اليمين المتطرف البريطاني متواضعة مقارنة بالخارطة المؤرقة للصعود اليميني في الكثير من العواصم الأوروبية، لكن النجاحات التراكمية لأقصى اليمين البريطاني في عقد ونصف تتبع نفس المنحنى الأوروبي الصاعد وتشي بإمكانية تحول حزب «الإصلاح» إلى لاعب معتبر في الانتخابات القادمة أو ما قد يأتي بعدها. حظي حزب العمال بضربة حظ مزدوجة، فبالإضافة لتفتت أصوات اليمين لصالحه، انهار الحزب القومي الاسكتلندي بشكل غير متوقع. كان الصعود المفاجئ للحزب الاسكتلندي في الانتخابات العامة عام 2015، وفوزه بـ56 مقعدًا ليصبح الحزب الثالث في مجلس العموم البريطاني، آخذًا من رصيد حزب العمال الذي كانت تصوت له أغلبية الناخبين الاسكتلنديين بشكل تقليدي. وحينها كانت التوقعات تدور حول استحالة تشكيل العمال حكومة أغلبية في المستقبل طالما فقد الناخبين الاسكتلنديين. لكن مع تراجع الحزب القومي الإسكتلندي لأسباب محلية وعلى خلفية سلسلة من الخلافات الداخلية وفضائح الفساد المالي، خسر الحزب 39 مقعدًا، لتتبقى له تسعة فقط. وفي المقابل فاز العمال بـ37 مقعدًا ليعود الحزب الأكبر في إسكتلندا مرة أخرى، ما يعني أيضًا تأجيل مشروع الاستقلال الإسكتلندي إلى أجل غير محدد.
في عام 1951، صوّت 97% من الناخبين البريطانيين لواحد من الحزبين الكبيرين، المحافظين أو العمال، ظلت تلك النسبة العالية هي القاعدة في حتى نهاية عقد الستينيات. وبالرغم من تزايد حصص أحزاب ثالثة ورابعة لاحقًا، إلا أن انتخابات العام 2017 على سبيل المثال شهدت تصويت 87% من الناخبين في إنجلترا لصالح واحد من الحزبين. في الانتخابات الأخيرة، نال الحزبان مجتمعين أقلّ من 58% من أصوات الناخبين، وهي نسبة متدنية جدًا تاريخيًا، وتشير مع تدني نسبة التصويت إلى تراجع الثقة في المؤسسة السياسية القائمة.
على خلفية الحرب في غزة، شعرت قطاعات من الناخبين ذوي التوجهات اليسارية ومن الأقليات بأنه ليس ثمة حزب يمثلهم، حيث كان موقف الحزبين الرئيسيين يكاد يكون متطابقًا بشأن ما يجري في الشرق الأوسط. كما كان من شأن إزاحة ستارمر لحزبه نحو اليمين، وملاطفته لقطاع الأعمال والقطاع المالي، أن جعل الفوارق بين برنامج العمال الانتخابي وسياسات المحافظين محدودة، وتتعلق بالتفاصيل لا بالمنطلقات الإيدلوجية، مما أكسب حزبه لقبًا تهكميًّا هو «حزب المحافظين الجديد». وفي ظل ما يمكن تسميته ببعض المبالغة «ديمقراطية بلا خيارات»، وجدت نسبة معتبرة من الناخبين أنفسهم أمام خيار وحيد هو التصويت الاحتجاجي. في ذلك السياق، حقق حزب الخضر تقدمًا كبيرًا بحصده 7% من الأصوات (هو ما ترجم إلى 4 مقاعد فقط في البرلمان). قدم الخضر برنامجًا يساريًا جذريًا يلامس الاحتياجات اليومية للمواطنين، وعلى رأسها أزمة السكن، والجدير بالذكر أنه كان أول حزب رئيسي بريطاني يدعو لوقف إطلاق النار في غزة. قدم الخضر، أو ما يطلق عليهم «اليسار على دراجة» خيارًا للمصوتين اليساريين الغاضبين من العمال بالعموم، وبالأخص فيما يتعلق بالحرب في غزة. وعلى الخلفية نفسها خسر العمال عددًا من المقاعد لصالح مرشحين مستقلين في الدوائر ذات النسبة العالية من المسلمين، وذلك على خلفية موقف الحزب من غزة. كذلك فاز جيرمي كوربين كمرشح مستقل ضد مرشح العمال.
بخلاف العناوين العريضة حول الانتصار الكاسح للعمال، تكشف الصورة المقربة لنتائج الانتخابات عن تفتت للقاعدة الانتخابية، بشكل ينعكس على الحكومة العمالية الحالية، فهي تتمتع بأغلبية هائلة في البرلمان بينما تحظى بأصوات ثلث الناخبين فقط. صعود اليمين المتطرف ممثلًا في حزب الاستقلال يقابله تسرب لأصوات اليسار العمالي نحو حزب الخضر، الذي يمكن له أن يصبح مستقبلًا «حزب العمال الجديد»، فيما يفقد العمال قاعدته من أصوات الأقليات التي كانت مضمونة في الماضي. باستثناء بعض الوعود المتعلقة بإصلاح قوانين العمل والسكن وإلغاء خطة نقل اللاجئين إلى رواندا، لم يقدم العمال برنامجًا يمهد لتغييرات كبرى في السياسات الداخلية أو فيما يتعلق بالنموذج النيوليبرالي للاقتصاد، أما فيما يخص السياسية الخارجية فإن بريطانيا تتبع بشكل تقليدي الخطوط العامة للسياسات الأمريكية، ولم يصدر عن قيادات الحزب ما يوحي بغير ذلك وكالات