بعد مرور نصف قرن على رحيل الدكتاتور الإسباني فرانشيسكو فرانكو، لا تزال إسبانيا تعاني من جراحات الماضي، حيث تتنازعها جهود كشف الحقائق ومواجهة التاريخ مع صعود نزعات تمجد حقبة الدكتاتورية، خاصة بين الأجيال الشابة التي لم تعش تلك الفترة.
في صيف هذا العام، تلقت المحامية مارينا رولدان من غرناطة ذلك الهاتف الذي انتظرته عائلتها 87 عاماً: لقد عُثر على رفات جدها، فيرمين رولدان غارسيا، في وادٍ قرب قريتهم. كان فيرمين، مفتش الضرائب والنقابي الاشتراكي، من بين آلاف الذين أعدموا خلال الحرب الأهلية الإسبانية (1936-1939) وحقبة دكتاتورية فرانكو (1939-1975).
تقول مارينا للجزيرة نت بصوت مرتجف: “فكرت بوالدي الراحل أولاً… وأعتقد أنهم جميعاً يستحقون أن يُعثر على الزوج، والوالد”. كان عمر والدها عشرة أشهر فقط عندما قُتل جده.
تشير التقديرات إلى أن ضحايا الإعدامات الميدانية في عهد فرانكو تراوح بين 130 و200 ألف شخص، ما زال آلافهم في مقابر جماعية غير معلمة. ويقدر خبراء وجود حوالي 6000 مقبرة جماعية في أنحاء البلاد.
يقود فرانسيسكو كاريون، أستاذ الآثار في جامعة غرناطة، فريقاً للتنقيب في فيزنار بدعم حكومي، حيث عثروا حتى الآن على 166 هيكلاً عظمياً. يصف كاريون العملية بأنها “معقدة عاطفياً”، مشيراً إلى أنهم عثروا على رفات طفل بين 11 و14 عاماً.
في الذكرى الخمسين لانتهاء الدكتاتورية، تواجه إسبانيا مفارقة صادمة: صعود التيارات اليمينية المتطرفة التي تتغنى بمزايا عهد فرانكو بين الشباب.
فقد أظهر استطلاع حديث أن 20% ممن تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عاماً يعتقدون أن الدكتاتورية كانت “جيدة” أو “جيدة جداً”.
ويحذر المعلمون من دور وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة تيك توك، في تغذية هذه الاتجاهات. يقول خوسيه غارسيا فيكو، معلم اقتصاد: “الطلاب غارقون في المحتوى المنشور على تيك توك… والمحتوى الموجه للمراهقين من الأحزاب اليمينية كبير جداً”.
يحلل أوريول بارثوميو، الباحث في جامعة برشلونة المستقلة، هذه الظاهرة قائلاً: “هناك نوع من تأليه سنوات فرانكو يعمل بشكل جيد على وسائل التواصل الاجتماعي”، موضحاً أن الخطاب اليميني يصور تلك الحقبة كزمن بسيط “لم تكن هناك نسوية راديكالية ولا مهاجرون”.
ويشير إلى تحول الناخبين اليمينيين من الحزب الشعبي التقليدي – الذي “أصبح حزباً للمسنين” – إلى حزب فوكس المتطرف، الذي يسيطر الآن على 20% من الأصوات.
على عكس ألمانيا وإيطاليا، لم تشهد إسبانيا إدانة رسمية للدكتاتورية، حيث انتهت من تلقاء نفسها بوفاة فرانكو. يوضح بارثوميو: “ذلك الغياب لرفض رسمي يسمح ببقاء نوع من الفرانكوية الاجتماعية”.
ورغم التقدم الاجتماعي الكبير الذي شهدته إسبانيا – من حقوق المرأة إلى زواج المثليين – بقي الماضي مسكوتاً عنه إلى حد كبير حتى قانون “الذاكرة التاريخية” عام 2007، الذي بدأ عملية مواجهة التراث الفرانكوي يخشى خبراء الآثار من أن صعود اليمين قد يهدد عمليات استخراج الرفات. يقول كاريون”الحكومة الشعبية السابقة قطعت كل التمويل لعمليات الاستخراج. تم وقفه بالكامل”.
رغم التحديات، تمنح عمليات الاستخراج العائلات شيئاً ثميناً: الخاتمة. يصف كاريون لحظة تسليم الرفات: “إنها طقوس مؤثرة للغاية شيء يكاد يكون سحرياً”.
أما مارينا، فتقول إن العثور على جدها لم يشعرها بأن “جرحاً مفتوحاً يتم إغلاقه”، بل بأمان لأن “والدي سيكون سعيداً وأنه أيضاً يستريح الآن”.
في إسبانيا اليوم، لا يزال الماضي حاضراً بقوة، والصراع على الذاكرة التاريخية يشكل أحد أبرز معالم الحاضر، حيث تتداخل جراح الماضي مع تحديات الحاضر في مشهد معقد تتنازعه رغبة في النسيان وحاجة ملحة للتذكر.