جريدة

تحديات بناء الدولة الحديتة بالصومال

ميديا أونكيت 24

 

ربط الدكتور محمد بوشيخي، الباحث المغربي المتخصص في القضايا الجيو-سياسية والحركات الإرهابية، الأزمـة الصومـالية بغياب ثقافـة سياسية تتيح التفاعل الإيجابي مـع مسـتلزمات بناء الدولـة الحديثـة؛ موردا أن “العشيرة ظلت فاعلاً سياسـياً لا يمكن احتواؤه إلا بإدماجها في نظام الحكم”.

 

وأبرز المتخصص في الحركات الإرهابية، في مقال نشر على منصة المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، بعنوان “إرث العشيرة والعنف هل تفلح تجربة إعادة بناء الدولة في الصومال؟”، أن “التحدي الجهادي فرض واقعاً جديـداً أقنع العالم بأن بنـاء الدولـة في الصومال مطلب ملـح للاستقرار الإقليمـي؛ بحيث كان مـن نتيجتهما تقـدم في بناء المؤسسـات الحكوميـة وتراجع الخطر الجهـادي، فصارت معالـم الدولـة أكثـر وضوحاً وبتوازن أقل”.

 

ولم يستبعد الباحث المغربي سيناريو سـقوط الدولة مجـدداً، بعـد زوال حركـة الشـباب وانبعاث العشيرة لتطعن في “الميثاق الفـدرالي”، مشددا على أن “بناء الدولة الصومالية يمر وفق متطلبات مكافحة الإرهاب وترويض العشيرة، وعبر مقاربات مفعوليتها بطيئة لكن مردوديتها أكيدة”، ولافتا إلى أن “القرارات المتخذة مؤخرا بشأن انتخاب الرئيس بشكل مباشر ورفع مجلس الأمن حظر السلاح على الجيش ليست إلا بداية لطريق شاق وطويل”.

نص المقال:

استمرت الأزمة الصومالية منذ اندلاع الحرب الأهلية عام 1991، بسبب هيمنة الروابط التقليدية ممثلة في “العشيرة” كوحدة رئيسية ناظمة للعلاقات المجتمعية على حساب التشكيلات السياسية الحديثة، بل إن هذه الأخيرة تحولت إلى أداة في يد العشيرة لهندسة العلاقات الاجتماعية والتأثير في القرارات السياسية بدل انخراطها في تفكيك العشيرة وبناء الدولة.

ومع بداية الألفية الثانية ودخول الأزمة عقدها الثاني أخذت تلوح في الأفق تهديدات من نوع جديد حملها الفكر الجهادي الذي رفع شعار الشريعة بدل العشيرة والأمة بدل الدولة؛ ما فرض تطوير مقاربات جديدة لبناء الدولة تزاوج بين مقتضيات المصالحة الوطنية والضرورات الأمنية.

وقبل التطرق إلى مستلزمات بناء الدولة في ظل التهديد الجهادي سوف نعرج، في هذه الورقة، على أزمة الدولة الصومالية التي ظلت تحمل بذور فشلها منذ الاستقلال، فقدمت أبرز نموذج للدولة الفاشلة، حتى صار اصطلاح “الصوملة” رديفًا “للبلقنة” الذي طالما استخدم لتوصيف غياب الدولة وفوضى الانقسام.

دولة الاستقلال: تنافر الديمقراطية والعشيرة

نال الصومال استقلاله في 26 يونيو 1960، تاريخ تحرر شطره الجنوبي المعروف بـ “الصومال البريطاني”، وبعد خمسة أيام استقل شطره الشمالي، أو “الصومال الإيطالي”، ليعلن رسميًا عن قيام جمهورية الصومال، بحدود رسمتها القوتان الاستعماريتان بريطانيا وإيطاليا. وقد شغلت وقتها غبطة الاحتفال بالاستقلال النخبة السياسية في البلاد عن دراسة متطلبات الوحدة بين شطري البلد وأسس قيام دولة الاستقلال “الموحدة” وضمانات استدامتها.

إذ رغم اعتبار “موضوع وحدة الصومال هدفا رئيسيا، ومطلبا جماهيريا لا يمكن الخروج عنه”، إلى درجة اعتبار “كل من بعد عن هذا الهدف خائنًا للقضية الصومالية”، فإن سنوات الاستقلال لم تشهد نقاشًا سياسيًا في مستوى الحدث، وهو ما يفسر بضعف الثقافة السياسية لدى النخبة الوطنية وتركيز خطاباتها على الوعظ السياسي حول أهمية الاستقلال والوحدة واستعادة الأراضي الملحقة بدول الجوار، دون تقديم تصور عملي لبناء الدولة يجمع مكوناتها ويصون هويتها وفق مبادئ توافقية وملزمة للجميع.

في غضون ذلك كان ينظر إلى “الديمقراطية” كإطار للتوافق وخارطة طريق لبناء الدولة؛ دولة الوحدة التي تحتضن جميع الصوماليين في تجاهل تام للخصوصيات التاريخية والثقافية للهوية الصومالية غير المؤهلة لاحتضان التجربة الديمقراطية في صيغتها الغربية. وذلك بالنظر إلى طبيعة البنية الثقافية والاجتماعية التقليدية، وغياب أرضية اقتصادية قوية تسند التجربة الوليدة. وبالتالي “لم تكن الديمقراطية بمعناها الواسع منفذة في الصومال، للمستوى الثقافي المنخفض، والفقر والقبيلة، ولم تمارس الديمقراطية إلا في مظاهرها (برلمان – حكومة)”.

لتعيش البلاد تجربة ديمقراطية ناقصة الشروط، تحت سطوة إعجاب قيادات “حزب الشباب الصومالي” النافذ بالأنظمة الغربية، فكان من أبرز تجلياتها تشكيل برلمان موحد من 123 عضوًا (90 من الجنوب و33 من الشمال)، واختيار رئيس مؤقت للجمهورية في شخص عبد الله عثمان في يوليو 1960، ونجاح أول استفتاء دستوري في يوليو 1961 يقر السيادة الشعبية وفصل السلط والتناوب على الحكم، ثم تخلي رئيس البلاد عن الحكم احترامًا للنتائج الانتخابية التي منحت الفوز لمنافسه ورئيس وزرائه عبد الرشيد علي شارماركي في 10 يونيو 1967، وقرار الرئيس المنتخب تعيين محمد الحاج إبراهيم إيجال، المنحدر من الجزء الشمالي، رئيسًا للوزراء.

وعمومًا ساد خلال سنوات الاستقلال الأولى، في مخيال النخبة السياسية، نموذج “الدولة الديمقراطية” كآلية لتبديد الاختلاف وتدبير الحكم؛ فتم العمل على بناء المؤسسات الحديثة لتحل محل المؤسسات الأهلية وتتملك وظائفها، فظهرت أولى الإشكاليات الناجمة عن التوفيق بين النظامين التقليدي والحديث، متمثلة في ازدواجية “العشيرة والحزب”؛ لأن العشائر أخذت تؤسس أحزابا سياسية تعبر عن صوتها وتدافع عن مصالحها وفق “الرابطة الدموية” وليس القناعات الفكرية والانتماءات الأيديولوجية والبرامج الوطنية… فتحول الحزب كمؤسسة حديثة إلى أداة لخدمة العشيرة كمؤسسة تقليدية، وبالتالي فقد دوره في تحقيق مفهوم “المواطنة”؛ القاعدة الأساسية في منظومة الدولة الحديثة.

وما ساعد على هذا الوضع هو اعتماد الترتيبات الدستورية “نظامًا معقدًا للتمثيل القبلي/ العشائري على المستوى الوطني”، ما “عكس التعددية الانقسامية” و”رسخ الانقسامات والولاءات القبلية”. وزاد الأمر استفحالاً تحكم النزعة العشائرية في نواب البرلمان والتأثير على قراراتهم التي زكَّت أكثر فأكثر الدعوات الانفصالية، فضلاً عن غياب نخبة حديثة تحظى بالعقلانية السياسية، وتلعب دور “الأنتليجنسيا” في مشروع بناء الدولة؛ إنما مجرد وجهاء وأعيان يستمدون قوتهم من الكاريزما والنفوذ العشائري، وهذا يفسر في جانب منه بعوامل مرتبطة بالمرحلة الاستعمارية التي لم تسمح بإطلاق حركة تحررية تستثمر في تكوين الكفاءات، ووجود إدارة استعمارية، بريطانية خصوصًا، غير مهتمة بإيجاد متحدثين محليين لتمثيل المواطنين وإدارة الشؤون المحلية.

لذلك شهد الصومال، قبل نهاية العقد الأول من استقلاله، أزمة سياسية عميقة ظل ومازال يعاني من تبعاتها، حيث أبانت الانتخابات البرلمانية عام 1969 عن عدم قدرة الصوماليين على تحمل الآليات الديمقراطية في إدارة دولتهم الناشئة، فأدت التجاوزات الانتخابية إلى اشتعال الصراع السياسي من خارج المؤسسات، ما أدى إلى العصف بأسس السلم الاجتماعي الذي راح ضحيته رئيس البلاد عبد الرشيد علي شرماركي في 15 أكتوبر 1969.

الدولة الصومالية: تغول العشيرة

شكل اغتيال رئيس البلاد ورمز وحدتها، على يد أحد حراسه، إجهاضًا للتجربة الديمقراطية وانهيارًا لمشروع دولة الاستقلال وبداية التأسيس للدولة العسكرية على شاكلة النموذج الاشتراكي. ففي ظل الاحتقان السياسي على خلفية حادث الاغتيال نفَّذ الجيش انقلابًا قاده الفريق سياد بري في 21 أكتوبر 1969.

سعى النظام الجديد، المدعوم سوفياتيًا والقائم على حكم الفرد، ممثلاً في سياد بري، رئيس المجلس الأعلى للثورة، إلى إعادة تعريف وظيفة الدولة عبر خطاباته الحماسية المتخمة بمفردات الثورة والوطنية والعداء للإمبريالية، لجعل “الحس القومي” و”التحرر” و”التوحيد” بمثابة المحاور المؤطرة لسياسة الدولة الداخلية والخارجية. كما اعتبر الميثاق الثاني للثورة، في يناير 1972، “الاشتراكية العلمية” إيديولوجية للدولة، وأن عقيدة الشعب ستكون “موضوع احترام ووفاق”.

لكن تبني “الاشتراكية العلمية” لم يتأسس على إدراك حقيقي لفلسفتها، بل إن سياد بري نفسه لم يفهم معناها، فالرجل لم يحصل على “تعليم رسمي، ولم تكن لديه المعرفة الأساسية بالمبادئ الاشتراكية، ولم يستوعب أبدًا الماركسية اللينينية”، وبالتالي كان الهدف من تبنيها “إرضاء الاتحاد السوفييتي”، كما منحته، بحسب إيوان لويس، الشرعية لاستبداده بإباحتها “عبادة الشخص” حسب النموذج الماوي.

وعمومًا، سوَّق النظام لاشتراكيته داخليًا باعتبارها طريقًا للوحدة والعدالة والاستقلال الاقتصادي والاكتفاء الذاتي والتطور، وزعم أن وَضْع حد للقبلية والمحسوبية العشائرية والفساد يتحقق باستبدال النظام العشائري بالاشتراكية العلمية؛ كما نهج سياسة التأميم والتخطيط انسجامًا مع الهوية الاشتراكية للدولة التي باتت تعرف باسم “الجمهورية الديمقراطية الصومالية”، بالتوازي مع تنفيذ خطة للاستئثار بالحكم، عن طريق تعليق الدستور وحل البرلمان والمحكمة العليا وحظر الإعلام والأحزاب السياسية والجمعيات المدنية… رغم ما تعنيه هذه الإجراءات من استهداف للتوازنات الاجتماعية، بإسقاط تمثيلية العشائر في تلك الهيئات.

فخلقت هذه الإجراءات بيئة اجتماعية مناسبة لإعادة الانتظام في العشيرة، خاصة بعد حل المجلس الثوري ونقل سلطاته إلى “الحزب الاشتراكي الثوري الصومالي”، الواجهة السياسية للنظام المنشأ حينها في يوليو 1976، وفق عقيدة “الحزب الواحد” الذي نص برنامجه على أن الإيمان بالاشتراكية العلمية هو “الضمان الوحيد لحماية وتطوير الخط السياسي”، وذكَّر بدعوة الإسلام “إلى المساواة والعدالة والتقدم”، وادعى أن الثورة الصومالية “أعادت للدين الإسلامي حرمته”.

غير أن هزيمة الصومال أمام إثيوبيا، خلال “حرب أوغادين” (1977-1978)، أسقطت كل الشعارات الاشتراكية، فاتجه سياد بري، المولود في إقليم أوغادين، إلى جعل عشيرته “المريحان” العمود الفقري لنظامه، وابتعد عن الاتحاد السوفيتي لاصطفافه بجانب اثيوبيا وطرد كل خبرائه، وفي نوفمبر 1977 ألغى “اتفاقية الصداقة والمعاهدة” الموقعة مع موسكو عام 1974، وانعطف غربًا نحو الولايات المتحدة التي وقع معها اتفاقيات عسكرية واقتصادية مهمة عام 1980، ما شكَّل انقلابًا في إيديولوجية الدولة نحو الرأسمالية.

أحدثت هذه التطورات شروخًا في حكم بري الذي حاول إنقاذ نظامه بإثارة الصراعات “بين القبائل وتسليح بعضها ودعمها ماديًا”، وتصفيات الخصوم والمنافسين، بمن فيهم اللواء جبيري، شريكه في انقلاب 1969، خاصة بعد المحاولة الانقلابية التي استهدفته في أبريل 1978، بتدبير ضباط من عشيرة المجرتين، حيث انتقم من مدنيي العشيرة، وهو ما تكرر مع مدنيي قبيلة إسحاق بعد إنشاء عدد من وجهائها “الحركة الوطنية الصومالية”.

وبهذا استعاض بري بالنزعة العشائرية عن الروح الوطنية لتوطيد سلطاته التي عززها بإصدار وثيقة دستورية، في أغسطس 1979، فأجج العداء ضده الذي تطور إلى ثورة عليه.

وجدت ثورة ديسمبر 1990 في الرابط الدموي أيضًا وقودًا لكل فصائلها السياسية والعسكرية تقريبًا، إذ تشكلت وناضلت وفق مصالحه وإملاءاته، مثل “الجبهة الديمقراطية للإنقاذ الصومال” (1978)، المعبرة عن “المجرتين” من عشائر قبيلة الدارود، و”الحركة الوطنية الصومالية” (1980) من عناصر ينتمون إلى قبيلة إسحاق، و”المؤتمر الصومالي الموحد” (1989) من أبناء قبيلة الهويا، ثم “الجبهة القومية الصومالية”، التي نشأت بعد ذلك من جهود أبناء قبيلة المريحان.

وتبعًا لذلك تفاقمت “الأزمة الصومالية” باستغلال العشيرة شغور الدولة والإحلال محلها بمصادرة وظائفها، فكانت الحرب الأهلية حربًا عشائرية بامتياز، تتطور على إيقاع التوازنات العشائرية ولو من داخل القبيلة نفسها؛ وهذا ما تؤكده الحرب الطاحنة بين علي مهدي، من عشيرة أبغال، وفرح عيديد، من عشيرة هبر غدر، وكلتاهما من قبيلة الهويا التي سيطرت على مقديشو في 27 يناير 1991 من خلال “المجلس الوطني الصومالي”.

ليستعر الاقتتال بتحريض العشيرة حتى في ظل وجود حكومات انتقالية، فاستمر تأجيل مشروع بناء الدولة الذي ظل يطبخ بالدول الأجنبية تحت ضغط الهاجس الأمني، وذلك إلى غاية 2012، تاريخ أول انتخابات رئاسية داخل الصومال، شكَّلت أول بداية لمرحلة بناء المؤسسات الاتحادية الدائمة.

لكن الصعوبات الميدانية حالت دون وضع البلاد على سكة البناء، التي تعطل مشروعها وزاد ارتباكًا منذ 2006 بسيطرة مليشيا “اتحاد المحاكم الإسلامية” على مقديشو ومناطق ممتدة جنوبي البلاد.

بناء الدولة في سياق مكافحة الارهاب

تعود بداية التهديد الجهادي في الصومال إلى إطار سري أخذ في التبلور منذ النصف الأول من الألفية الثانية، وفي 2006 ظهر إلى العلن باسم “حركة الشباب المجاهدين”، كجناح عسكري لـ “اتحاد المحاكم الإسلامية” الذي اكتسح أراضي شاسعة من البلاد منذ يونيو 2006 ومازال رغم إخلائه العاصمة في سبتمبر 2011، وبداية العد العكسي لتمدده.

بيد أن انضمام “اتحاد المحاكم الإسلامية” للمعارضة السياسية بجانب القوى العلمانية، وانتخاب زعيمه شيخ شريف شيخ أحمد رئيسًا لـ “تحالف إعادة تحرير الصومال” بأسمرة، في سبتمبر 2007، أدى إلى انشقاق “حركة الشباب” بقيادة مختار أبو الزبير؛ وفي 2009 بايعت أسامة بن لادن، زعيم القاعدة، وعبرت عن طموحها إلى تأسيس “دولة إسلامية” في رسالة أميرها، يوم 26 شعبان 1431هـ (2010م)، لابن لادن الذي دعا في جوابه إلى موازنة المصالح والمفاسد في اتخاذ قرار إعلان الدولة، وأن تكون بمسمى “إمارة الصومال الإسلامية”.

كما أكد الظواهري، في فبراير 2012، ارتباط الحركة بالقاعدة في شريط مصور تضمن كلمة أبو الزبير للظواهري يقول فيها: “أميرنا أبشرك، فلك في الصومال عساكر تقوى الله زادها ونصرة دينه عتادها”. وبهذا رسخت الحركة البعد الأممي في تصورها على حساب الوطني وانتصرت للشريعة الجهادية ضد النزعة العشائرية في مشروعها. ومن خلال المنطق القائم على “الأممية” و”الجهادية” جعلت الحركة نفسها نقيضًا لمنطق الدولة الصومالية، التي ظلت منذ الاستقلال تعرف على أساس “الوطنية” و”العشيرة”.

وقد أرغم صعود حركة الشباب إلى سطح المشهد السياسي والميداني القوى الوطنية على التوافق لمواجهة العدو المشترك، ودعم الالتزام الحكومي بمزاوجة سياسة مكافحة الإرهاب مع متطلبات بناء الدولة من خلال مسارين متوازيين؛ مسار سياسي يقوم على تنزيل “الميثاق الفدرالي” ومسار أمني يقوم على “بناء السلام”.

مسار “الميثاق الفدرالي”

يتعلق الأمر ببرنامج سياسي “انتقالي” تمت بلورته منذ مايو 2000 في مؤتمر عرتا بجيبوتي الذي أقر النظام الفدرالي للصومال عبر منح الحكم الذاتي للأقاليم وإطلاق المرحلة الانتقالية بإقامة المؤسسات الحكومية المنوط بها إدخال البلاد المرحلة الاتحادية.

في حين توج مؤتمر إمبغاتي، بكينيا في 2004، بعد ثلاث سنوات من الأشغال، بإقامة “النظام الفيدرالي” في صورته الحالية عبر اختيار عبد الله يوسف رئيسًا للدولة في أكتوبر 2004، وتأسيس “برلمان اتحادي انتقالي” تبنى في نوفمبر 2004 “الميثاق الاتحادي الانتقالي” الذي في ضوئه أقيمت “حكومة اتحادية انتقالية” برئاسة علي محمد جيدي في الشهر نفسه.

وبالتالي فإن مؤتمر عرتا في 2000، الذي أشرف عليه المجتمع المدني وليس الفصائل المتقاتلة، حدد خارطة الطريق لمؤتمر إمبغاتي وكل خطوات بناء الدولة التي ستأتي من بعده؛ كما أكد حقيقة أن “الصوماليين مسلمون، وأن الوحدة الأساسية في العمل السياسي العام هي العشيرة”، أي أن الإسلام والعشيرة هما “الركيزتان الأساسيتان” للشخصية الصومالية اللتان قمعهما “النظام العسكري (1969-1991)”. وبهذا آثر المؤتمرون، أمام استمرار الانقسام العشائري، تكييف مبادرتهم مع متطلبات الموازنة بين مستلزمات الديمقراطية والتوازنات الاجتماعية.

ولتصريف هذه المبادرة شدد المؤتمر على الهوية الإسلامية للدولة وسيادة الشريعة في المنظومة القانونية باعتبار “الشريعة الإسلامية مرجًعا نهائيًا في المواد القانونية لحكم البلاد” من جهة، وتبني “صيغة 4.5 المبتكرة لتقاسم السلطة السياسية بين العشائر” من جهة أخرى.

وتقضي صيغة (4.5) بإقناع العشيرة بالتعايش الوطني في إطار النظام الاتحادي مادام الصومال يخضع للتجاذبات العرقية وإعادة البناء انطلاقًا من العشائر. وهذا ما يستدعي إعمال “المحاصصة” لمراعاة تمثيلية العشائر فيكل هيئات الدولة؛ وقد وفرت لها مخرجات مؤتمر عرتا عام 2000 الظروف الأولية بتشكيل برلمان يرأسه عبد الله ديرو من قبيلة الرحانوين، وانتخاب عبد القاسم صلاد من قبلية الهويا رئيسًا للدولة، ورئاسة علي خوليف جوليد من قبيلة الدارود للحكومة الانتقالية. وسميت “سياسة 4.5″؛ حيث يمثل الرقم 4 القبائل الأربع الكبرى، في حين يمثل النصف الأقليات القبلية في البلاد. وبناء على هذه الآلية يمنح 61 مقعدًا من الـ 275 – التي تشكل مجموع المقاعد في مجلس النواب (الغرفة السفلى)- لكل قبيلة من القبائل الأربع الكبرى، و31 مقعدًا للقبائل التي تمثل الأقلية، إضافة إلى مقاعد مجلس الشيوخ (الغرفة العليا) التي تبلغ 54 مقعدًا”.

وكان لنظام المحاصصة دور مهم في نجاح انتخابات 2012 و2017 و2022، والسماح لحسن شيخ محمود بالعودة لرئاسة البلاد في 15 مايو 2022، بعد أن تقلد هذا المنصب خلال 2012-2017.

مسار “بناء السلام”

يتعلق الأمر بالجهود الأمنية للقضاء على حركة الشباب فكرًا وتنظيمًا، إذ بات يُنظر إلى “بناء السلام” كمرحلة أولى لبناء الدولة، لاسيما أن سيطرة الإسلاميين على مقديشو في 2006 عكست أيضًا رغبة السكان في تجاوز النماذج المقترحة لبناء الدولة تحت رعاية نظام فصائلي فشل في تحقيق ما تم التعهد به؛ أي إيجاد حياة طبيعية في العاصمة وحد أدنى من الإدارة المحلية، والتحدث مع بقية البلاد بصوت واحد.

ما شجع السلطات على توسيع دائرة التوافقات الوطنية لتشمل مختلف أطياف المعارضة والتوقيع على اتفاق جيبوتي في 9 يونيو 2008 مع “تحالف إعادة تحرير الصومال”، الذي تضمن ترتيبات أمنية تمهد الطريق للمصالحة، وتنظيم انتخابات في قصر الأمة الجيبوتي يوم 31 يناير 2009 توجت شيخ شريف شيخ أحمد زعيم “اتحاد المحاكم الإسلامية” رئيسًا للبلاد.

كما خلقت دعوات السلطات المتكررة لـ”حركة الشباب” بالاستسلام مقابل العفو، منذ 2014، انقسامات بين قيادييها، إذ اقتنع بعضهم بمراجعة أفكارهم في ضوء القراءات السلمية للنصوص الدينية وبالتالي الالتحاق بالتنظيمات الوطنية بما فيها الإسلامية التي اعترفت بـ “الوطنية” و”العشيرة” كمرجعية أساسية لحل الأزمة. وكان من هؤلاء محمد سعيد أتم (يونيو 2014)، وزكريا إسماعيل حرسي (ديسمبر 2014)، ومختار روبو أبو منصور (أغسطس 2017)، الذي سيتولى منصب وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية منذ أغسطس 2022.

في مقابل ذلك استمرت “حركة الشباب” في القتال على أساس “الأممية” و”الشريعة الجهادية”، واستطاعت إقناع عدد من القبائل للالتحاق بصفوفها في مواجهة القوات الصومالية وحلفائها، وتبنت خطًا سياسيًا راديكاليًا بخصوص مستقبل الدولة منذ ولاية شيخ شريف أحمد، فرفضت الانضمام إلى “تحالف إعادة تحرير الصومال”، ونفذت ضربات قوية أربكت المشهد الأمني وشككت في فعالية سياسة مكافحة الإرهاب وعطلت برامج بناء الدولة؛ وكان من أقوى ضرباتها، التي مازالت متواصلة وإن بمستوى منخفض وبعمليات متقطعة على شاكلة حرب العصابات، محاولة اغتيال رئيس الجمهورية، حسن شيخ محمود، في سبتمبر 2013، التي ذكرت بمحاولة للمحاكم الإسلامية، سبق أن نفتها، لاغتيال الرئيس عبد الله يوسف في سبتمبر 2006. كما كانت عملياتها من بين أسباب تأجيل العمل بالاقتراع المباشر الذي كان مقررًا في انتخابات 2020.

وأمام تدهور الوضع الأمني استمرت السلطات، بدعم إقليمي ودولي، في ممارسة سياسة العصا والجزرة تجاه الحركة، لتفكيكها وإبطال مفعولها باعتبارها عامل عرقلة في مسار بناء الدولة. وبهذا نجحت في تحصيل الاعتراف الدولي بحكومتها في 2013 أي بعد أزيد من عقدين من انهيارها وانطلقت في عملية بناء الدولة بإنشاء الولايات الفيدرالية، ودخلت مرحلة الحرب الحاسمة ضد “حركة الشباب” التي أعلنها رئيس البلاد، منذ أغسطس 2022، وحققت إنجازات كبيرة على الأرض كرست الثقة الدولية في القيادة السياسية.

خاتمة

ترتبط أزمة الصومال بغياب ثقافة سياسية تتيح التفاعل الإيجابي مع مستلزمات بناء الدولة الحديثة؛ إذ ظلت العشيرة فاعلا سياسيا لا يمكن احتواؤه إلا بإدماجه ضمن نظام الحكم. لذلك لم تجد النخبة السياسية بدًا من اعتماد برامج “هجينة”، حديثة وتقليدية معًا، لتحصيل الشرعية لمبادراتها، فوجدت في النظام الفدرالي والمحاصصة آلية لبناء “الوطن” عبر إرضاء “العشيرة”؛ لكنها ما فتئت أن وجدت نفسها أمام تحدٍ جديد فرضه الفكر الجهادي الذي بسط نفوذه على الأرض وأملى عقيدته التي ترفض الوطن باسم “الأممية” وتبغض العشيرة باسم “الشريعة”.

وبهذا فرض التحدي الجهادي واقعًا جديدًا أقنع العالم بأن بناء الدولة في الصومال مطلب ملح للاستقرار الإقليمي، فتضافرت الجهود لمكافحة الارهاب وفق مسارين متوازيين، سياسي وأمني، كان من نتيجتهما تقدم في بناء المؤسسات الحكومية وتراجع الخطر الجهادي، فصارت معالم الدولة أكثر وضوحًا لكن أقل توازنًا؛ ما لا يستبعد معه سيناريو سقوط الدولة مجددًا بعد زوال حركة الشباب وانبعاث العشيرة لتطعن في “الميثاق الفدرالي”، لاسيما إن نازعتها الولايات حقها في اختيار ممثليها بالبرلمان وتفاقمت النزاعات بين الولايات والسلطة المركزية.

وذلك لأن الأزمة تجد مرجعها في ثقافة راسخة تحمي بنية اجتماعية تعيق الحكم الراشد وتقوض قيم العيش المشترك في المجتمع المعاصر؛ وبالتالي تحتم على الصوماليين بناء الدولة وفق متطلبات مكافحة الإرهاب وترويض العشيرة، وعبر مقاربات مفعوليتها بطيئة لكن مردوديتها أكيدة. وليست القرارات المتخذة أخيرًا بشأن انتخاب الرئيس بشكل مباشر ورفع مجلس الأمن حظر السلاح على الجيش إلا بداية لطريق شاق وطويل.