كرحمٍ ينبض في جسد ميّت، ثمة نداء للصلاة يُسمع لأول مرة بعد انقطاعه عدة أشهر، في حيّ دمرت إسرائيل مساجده كلها، تقتفي أثر الصوت فيذهلك انبعاثه من منطقة أشبه بمدينة أشباح.
الساعة الرابعة بميقات الفجر، يمسك المؤذن بيمينه مكبر الصوت، ويغلق بشماله أذنه، وبصوته الدافئ ينادي للصلاة، من وسط ساحة “مدرسة صلاح الدين الإعدادية” سابقا، وأحد أكبر مراكز إيواء النازحين بحيّ الرمال في قطاع غزة حاليا.
يتجمّع الرجال لتلبية النداء في غرفة سفلية كتبوا عليها “مصلى”، خصصوها للصلاة ولحلقات الذكر وللندوات الدينية، فصلاة الفجر تبدو للنازحين هنا محطة لانطلاق كلٍّ لما يسعى له.
الخروج لجمع الحطب في الصباح هي مهمة الرجال الأبرز في هذه الحرب، أما البعض الآخر فيخرج لتحصيل لقمة العيش وما يعينهم على البقاء، أو لحراسة ما سلم من منازلهم المدمرة، أو لقضاء النهار على أطلال بيوتهم بعيدا عن صخب البشر المتكدسين.
أما النساء هنا، فقد اتفقن فيما بينهن على النهوض قبل الفجر للدعاء وقيام الليل، وليبدأن يومهن بعد ذلك في سباق مع الزمن الضيق، حيث حُصرت همومهن بالعجن والخبز والغسيل وجلب المياه، المالح منها والعذب، وملء الخزان وإشعال النار للطهو وتسخين الماء للاستحمام، وهي مهام يعتقدن أن الحرب أكسبتهن خبرة بها، بعد أن كانت موكلة لآلات تحمل عنهن عبئها.
غرفة لعائلتين
الغرف التي كانت تسمّى فصولاً دراسية أضحت اليوم بيوتا تحتضن عائلات ممتدة، يزيد عددها عن 15 شخصا في الفصل الواحد. وعلى باب الغرفة يُكتب اسم العائلة التي تقطن فيها، وكان لافتا أحد عناوين الأبواب حيث حمل اسمين لعائلتين مختلفتين، فاستأذنت الجزيرة نت بالدخول.
غرفة مساحتها 25 مترا مربعا، مقسومة بين عائلتين لا تعرفان بعضهما، تفصل بينهما ستائر وأقمشة يسمونها قواطع، ورغم خفتها وهشاشتها فإنهم يعدونها أسوارا تحفظ خصوصيتهم أو جزءا منها، وفيها يختزلون بيوتهم بكل ما تتضمنه من أنشطة يومية.
تقول ميرفت عبد العال، صاحبة القسم الأول من الغرفة، للجزيرة نت “الحالة النفسية التي انتابتني مع نزوحي الذي تجاوز 10 مرات أتلفت جسدي وعافيتي”، حيث تقول إنها أصيبت بآلام المرارة والكبد الوبائي، واحتاجت علاجات وعملية جراحية لا تملك ثمنها، وفقدت الراحة خلال يومها في ظل الواجبات المطلوبة منها في هذا المكان.
ومنذ أشهر، تعتمد ميرفت الهمس أثناء حديثها مع أبنائها، كي لا تزعج الموجودين في النصف الآخر، الذين يسمعون أنفاسهم ليلاً، لذا وفي كثير من الأحيان تؤْثر الصمت أو تكتفي بالإيماء.
ورغم أنها لم تتمكن من التأقلم أو التعايش مع وضعها الجديد، فإن ما يدفعها لتحمله هو علاقتها الطيبة مع صديقات النزوح. وتقول “كل النساء هنا أخواتي، حتى أنهن رافقنني خلال مبيتي في المشفى حين أصبت بوعكتي الصحية”.
عجين الطحين والحكايات
في الغرفة المجاورة التي تحمل عنوان “عائلة أم رمزي الدلو”، وهي سيدة أرملة تتولى شؤون أبنائها وذراريهم، تجمعت أكثر من 20 امرأة وزّعن على أنفسهن مهام إعداد المعجنات لكل النازحين في المدرسة، تنفيذا لمبادرة يطلقها نشطاء بشكل دوري.
وفي غرفة أم رمزي التي تلقّت قذيفة مدفعية رقّعت أَثرها بلوح خشبي رقيق، تتعالى ضحكات السيدات ويتبادلن المواويل والنكات والأحاديث الشيّقة، وبينما كانت الأيادي تعمل كانت الآذان تنصت لصاحبة البيت، وهي تروي تفاصيل ميلاد زوجة ابنها قبل أشهر، حيث اصطحبتها لمشفى الشفاء، ولم تكن هناك غرفة خالية لتوليدها، فاضطرت لإخلاء غرفة يتكدس فيها النازحون.
وتقول إنها لا تستطيع وصف ميلاد فتاة تتوالى عليها آلام وطلقات المخاض على مسمع مئات النازحين الذين كانوا يفترشون باب الغرفة الخارجي حيث كانت تلد.
وتتحدث أم رمزي عن معاناتها التي توزعت بين البحث لحفيدها وأمه على ملابس، ومحاولة توفير طعام وقت المجاعة لتقوى الأم على الرضاعة، فلم تجد لها إلا سمسمية وعجوة. لكنها لم تتمكن من توفير الخصوصية والراحة لهما في هذا الفصل دائما.
وقاطعت أمٌّ من الموجودات حديث أم رمزي قائلة “أريد نزع الحفاض عن طفلتي وتعليمها دخول المرحاض، لكن وجودي في هذا المكان يحول دون ذلك”.
وكسرت السيدة أم رائد الدلو الجمود الذي انتهى به حديث النساء البائس، وهي ترق العجين بعد أن تمرغه في الدقيق، وتدندن “شفنا الويل يمّا شفناه للويل”.
“المدرسة حارتنا”
انتقلنا إلى جوار أم رائد، التي نزحت إلى المدرسة في الأسبوع الأول من الحرب، ودفعها لذلك قصف الطائرات بيت ابنتها العروس على رؤوس من فيه فاستشهدت مع زوجها، إضافةً إلى المناشير (إخطارات ورقية) التي رماها الاحتلال على المنطقة التي تقطن فيها تطالبهم بالإخلاء إلى الجنوب.
رفضت أم رائد ترك مدينتها والنزوح جنوبا، واختارت اللجوء إلى مدرسة تابعة للـ”أونروا”، لاعتقادها أنها “مكان آمن ومحصّن”، قبل أن يتبدد هذا الاعتقاد حين حوصرت المدرسة، واقتحمتها قوات الاحتلال مرة، وقصفت أخرى.
تقول “افترشنا الأرض 4 أيام مع أطفالنا، وعددنا 15، وعين القناص في المبنى المقابل لم تنفك عنّا، وبقينا دون طعام سوى “مصاص” (حلوى) نوزعه على الأطفال كل ما بكوا من الجوع..”.
وبعد انسحاب الاحتلال، عادت أم رائد والعائلات إلى المدرسة. “ألم تخشوا العودة وتكرار ما حدث؟”، قلن “أجواؤنا لا يمكن أن نجدها في مكان آخر، حارتنا نُسفت فأصبحت هذه المدرسة حارتنا، يعرف كلٌّ منا ما له وما عليه، بدءا من أدوار تنظيف المراحيض وانتهاءً بإفراغ سلات القمامة”.
اتفقت النساء على التجمع عصرا في “المضافة” بعد الانتهاء من إطعام عوائلهن، ويقصدن بذلك “غرفة أم جمال عاشور” التي يتجمعن فيها لخلوها من الرجال بعد استشهاد زوجها وابنها البكر.
ومع ابتسامتها التي تستقبل بها الوافدين، يخال الناظر إليها أن قلبها لم يخدش قط، لكن عندما تبدأ الحديث يتكشّف حزنها، خاصة حين تمر بتفاصيل استشهاد ابنها وزوجها.
لم يفصل بين الأب وابنه سوى شهرين، وعند سؤال أم جمال عن ظروف استشهاد زوجها، قاطعها طفلها الصغير محمد وأجاب “يوم مجزرة دوار الكويت، ذهبنا معا على دراجته لجلب الطحين، لكنني عدتُ وحدي وعاد شهيدا”.
مع ضغط المهام وعظم المسؤولية، تقول أم جمال إنها لا تجد وقتا لتعيش حزنها أو تعبّر عنه، “غير أن مكاني ممتلئ دائما بالضيوف من داخل المدرسة وخارجها”.
أما ابنتها سجى، فتقول إنها لا تحب المدرسة التي تلقّت فيها أكبر صدمتيْ فقدٍ تعرضت لهما في حياتها، وتضيف الأم “كل الخوف والجوع والشغل بكفة والفقد بكفة تانية”.
أُنس القرآن
تخلل الصمت الذي عم الجلسة صوت أُم رفعت نبهان وهي تتلو القرآن، حيث كانت تقترب من نهاية ختمه في جلسة واحدة خلال عدة ساعات. وعندما أرادت التعريف عن نفسها للجزيرة نت قاطعتها المسمّعة ورفعت الصفحة المخصصة لتدوين الأخطاء، وقالت “سردتْ حتى اللحظة 28 جزءا، وصفحتها بيضاء بلا خطأ واحد”. وأردفت “هكذا يمكنني أن أُعرّف بها”.
وحين أكملت أم رفعت الختمة، انسكبت دموعها وسجدت سجدة طويلة طلبت من الله فيها أن يُكتب أجر ختمتها لزوجها الشهيد، الذي قتله الاحتلال قبل أشهر على باب المدرسة ودُفن مقابلها. وقالت “زوجي هو من شجعني على حفظ القرآن، واليوم أسرده دون أن يكون معي”.
بقي جثمان زوجها 17 يوما مسجّى على الأرض، إلى أن دفن مع ثلة من الجثامين في أرض خالية مقابل المدرسة، بعد انسحاب الاحتلال من المنطقة. وتقول أم رفعت “سأزور قبر زوجي للمرة الأولى، لأخبره بأنني أهديت ثواب سردي للقرآن إليه”.
فاحت رائحة طلاء في أرجاء الطابق الذي كنّا فيه، وسط ذهول؛ مَن يفكر بهذا الشيء في هذا المكان والزمان؟، وعند سؤال الموجودات أجبن ضاحكات “هذه أم رامي ما بتعرف تقعد!”، حيث كانت تشرف على دهن الغرفة المجاورة التي حرقها جنود الاحتلال إبان الاقتحام.
التفتت أم رامي حسين إلى النساء اللاتي تجمهرن على باب الغرفة، وقالت “سننقل ندواتنا وتسميعنا وحلقاتنا إلى هذه الغرفة، وكلما هدّوا سنعمّر”.
ويبدو أن عِناد أم رامي وتحديها للاحتلال لم يبدأ من هذه الغرفة، فقد دمر الاحتلال بيتها وبيوت أبنائها، لكنها صيّرت غرفتها في المدرسة دارا ثانية، وأطلقت هنا دورات لتحفيظ القرآن وتفسيره وتلاوته.
“أم الشباب”
خلال مقابلة الجزيرة نت لأم رامي استأذن عدد من الشباب الدخول إليها عدة مرات، وكان جُلّهم يناديها “يا أمي”، وعند سؤالها عن عدد أبنائها أجابت متبسّمة “لا أحد من هؤلاء ابني، لكنّي أمهم جميعا، بعدما فرقتهم الحرب عن أمهاتهم، إما في جنوب القطاع أو قضين شهيدات”، ولأنها تتولى أمور الطهي لهم وإطعامهم وتلمّس ما ينقصهم أطلقوا عليها في المدرسة لقب “أم الشباب”.
نفضت أم رامي بيتها المدمر حجرا حجرا، وانتشلت ما سلم من تحت الأنقاض، ورتبته في غرفتها المزيّنة بصور العائلة مجتمعة، حيث كان النصيب الأوفر من الصور لابنها فضل، الذي استشهد في ساحة المدرسة مع سبعة من أصدقائه، بعدما فرغوا من الوضوء لصلاة الفجر.
رافقنا أم رامي إلى مكان استهداف ابنها، لكنها في الطريق توقفتْ أمام فسائل الأشجار التي بدأت تنبتُ أمام غرفتها، وقالت”انتزعتها من تحت ركام بيتنا المدمر، وأعدت زراعتها ورويتها ودبّت فيها الحياة بعد أن كانت ميتة”، وأردفت “ونحن كذلك مهما سرى فينا الموت فسنحيا، رغما عن إسرائيل، حتى لو حاولت إبادتنا”.
وحين اقتربنا من مسرح الاستهداف في ساحة المدرسة، حيث ارتقت روح ابنها، وقفت أم رامي على بقعةٍ قرب صنابير المياه، وقالت وهي تدور حول نفسها “هنا طلعت روحه، وكلما مشيت من هنا بحس روحي بتطلع”.
وبينما تعبق رائحة الكعك والعيد في المكان، لا تشتم أم رامي إلا رائحة دم ابنها، الذي لا تزال آثاره على الجدار، فخارت قواها وغطّت وجهها بيديها، ثم بكت وحجبت ضعفها، فهرولت إليها الأمهات لمساندتها، وقد تشابهت قصصهن بين فقد الولد والبيت والمال، ما جعل لطبطبتهن على أكتاف بعضهن جدوى، وكلمة السر بينهن “بتعدّي (ستمُر).. بس قولي يارب”!