علي الصاوي يكتب: كومبارس الخارج وشركاه
حين يفشل الإنسان وتُوصد في وجهه أبواب النجاح يشعر بالغُربة في مُحيطه، يقتله برد الفشل ببطء ويستبد به العجز في كل حِيلة، فلا يدري ماذا يفعل، هل يستسلم ويحمل أسفاره على عاتقه فيُعَيّر بها وَحده، أم يَمكر ويُخطّط لضرب الناجحين كى يشاركوه فشله ويرفع عن نفسه الحَرج؟
وهنا يحضرني قصة رجل سياسي متحول من بقايا حركات ما بعد التحرر، عُرف بخواء الفكر وشِيم الغدر وضعف المنطق وصِغر الهمة، يُعاني دوما من مخاض الفشل طِيلة مسيرة عمله السياسي، لا يُجيد اللعب النظيف في مضارب السياسة، يهوى تقدم المشهد بشتى الطرق يريد أن يكون عريس كل حفلة وميّت كل جنازة، المهم لا يبرح الضوء هامته القصيرة، ففصّل لنفسه ثوبا من جلد سميك لضبع نافق مُلقى على الطريق، يتوشّح به ليحمي نفسه من سهام رفاقه الذين تحولوا إلى خصوم بعد أن غدر بهم في كل ناد.
كان سيئ الحظ سياسيا، لا يعرف النجاج لبيته عنوانا، ولا التميّز في نفسه مكانا، لا يَكتمل له مشروع ولا يستمسك له بناء، يرى أن معايير النجاح مجرّد اختلاس لحظات من المتعة في الظلام بين حسناوات يلاطفنه، ومغامرات آخر الليل مع شِلّة الأنس في حانة قديمة على صوت موسيقى صاخبة وكأس شراب فاتر، يَغتنم أى شيء يَكوي به جِراح فشله التي تؤرقه وجعلته منبوذًا في نظر نفسه ومحتقرًا في أعين الناس.
عاش حياته كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران، يترنّح بين خيباته وآماله إلى أن قرر السفر خارج بلده بحثا عن صفقات مشبوهة لإعادة تدوير نفسه لعله يشم رائحة النجاح ويجلى صدأ الفشل من عليه، فكّر في أى بلد يذهب إليه، ظل يبحث ويُفكّر حتى هداه عقله إلى دولة في ناحية ذات مكانة وليدة، اختارها غريبة اليد واللسان كى يسهل عليه ممارسة المكر والخديعة بلا رقابة، فقال لنفسه بعد أن تجهز وعزم على السفر:
“أيها النجاح أعاهدك إن لم أصب منك نصيبا، فلن أسمح لأي شخص أعرفه بالنجاح ما دمت حيّا، سأقضي على كل متميّز وأبعد كل مناوئ، لن أقبل أن أركب قطار الفشل وحدي!”
حزم حقائبه وسافر أملا في قنص فرصة أخيرة، تَروي جوف قلبه العاطش للنجاح والرِفعة، يريد أن يكون كبيرا بأي ثمن رغم تجاربه الفاشلة وسقوطه المعتاد، لكن كما يقول المثل الشهير “عويل بلاده عويل بلاد الناس”؛ سقط في آتون الفشل وأخفق مجددا، ولم تسعفه إمكاناته المتواضعة في تحقيق غايته.
استقر في وجدان ذلك السياسي أن فشله طابع نفسي وغريزة فطرية، لا يدري ما العِلة أهو سوء النية أم سواد الطويّة؟ لم يكترث كثيرا لهذا الأمر، وبدأ يُخطّط كيف يُفشل من حوله عن طريق الاستدراج وبثّ الدعاية في مُحيطه وبين أقرانه، أن البلد الذي هاجر إليه رائع فهلُمّوا.. وإلىّ فضُمّوا، بدأ يُعدد محاسنه، ويتغزّل في رغد معيشته، يشرح لهم كيف تمدد فيه سياسياً ونجح اقتصاديا فخُيّل لأصحابه صحة دعاياه الكاذبة بعد أن غرّر بهم، فجاؤوا إليه زرافات ووحدانا رغبة في قطف ثمرات مختلف ألوانها من الأموال والشهرة وممارسة السياسة بحرية، غير مدركين أن ما ينتظرهم ليس إلا غرابيب سود من الفشل والإفلاس.
عرض عليهم مشاركته في بعض نشاطاته فوافقوا، وعندما وصلوا إلى بلد الأحلام كما كان يصفها لهم تبخر كل شئ واختفى صاحبهم فجأة في الزحام، كأن الأرض ابتلعته بعد أن سرق منهم أموالهم وأحلامهم وسلّط عليهم من يطاردهم ليعودوا خائبين مكسورين كى لا يبحثوا عنه، وهنا غَثِيت نفوسهم والتاعت قلوبهم وتطيرّت يأسا وحزنا، فخرجوا يتسكعون في حارات ذلك البلد الغريب يتكففون الناس، وكل واحد منهم يندب حظه ويلوم نفسه لتصديق ذلك الكذاب الأشرّ.
ظلوا هكذا عدة أشهر في تِيه وضلال وهم بين نارين، يخشون الرجوع خوفا من أن يُعيّروا بالفشل تارة، ويُحجمون عن الإقدام خوفا من مضاعفة الخسارة تارة أخرى، إلى أن انتفض أحدهم وصرخ في وجوههم قائلا: قد قلت لكم إن صاحبكم يكذب كما يتنفس فلم تصدقوني، أخبرتكم أنه نرجسي الطبع ومصاب بمرض النصب السياسي، وما أراد إلا أن ينقل لكم العدوى فكذبتموني، وها نحن الأن نتلاوم ونتجادل وهو في سِعة من نفسه ينتظر متى نفشل لننضم إليه ونشاركه عار الأبد.
حاولوا الخروج من هذا المأزق بأقل الخسائر وأعدوا العدة ولسان حال أحدهم يقول: بعض الناس حين لا يستطيع أن يهزمك بجُهده فإما أن يُشوّش عليك أو أن يستقطبك إلى ميدانه بدعاية كاذبة وإغراءات واهية ليحرقك بنيران فشله، وذاك ما فعله معنا هذا الأحمق، أراد أن نشاركه إخفاقاته السياسية وسعيه الخائب نحو الزعامة كي لا يحمل إرث الهزيمة وحده، حتى إذا عُيّر بفشله أشار نحونا وقال: “لست وحدي فهؤلاء أيضا فشلة، أطاعوني كالأغبياء وسال لُعابهم على كلمات جوفاء تُجافي الحقيقة وتخالف الواقع، فاتبعوني على عمى إلى أن صدمهم جدار الحقيقة ورجعوا بخفي حنين، فلا تلوموني ولكن لوموا أنفسكم، فأنا معذور وقد عاهدت القدر أن لا أدع أحدا ينجح إن لم أنجح أولا، وقد وفّيت بعهدي ومكرت بكم حتى تحقق مرادي.”
وفي حمى خسارتهم ونكستهم قال أصغرهم: إن صاحبنا لم يكن سوى شيطان تجسّد في جثمان إنس ليغوينا ويضل بنا سبيل الرشاد، فاتبعناه وأطعناه، وفي النهاية دفعنا الثمن من حاضرنا ومستقبلنا، وتلك بضاعة كل فاشل في استدراج ضحاياه نحو عسله المغشوش ووعوده الكاذبة ليقعوا في شِراك شرّه ويُنفّض عن نفسه غبار الفشل، فإما أن يُضلهم بنصائحه فيهلكوا، أو يضربهم بأدوات نجاح مزيف ليشوّش عليهم ويقطع عنهم طريق التَميّز.
فكم من مثل هذا الفاشل يعيش بين الناس ويُصدّر لهم أوهام وأحلام بلا رصيد حقيقي من الإنجازات، وحين تُفتش خلفه تجدها كالعهن المنفوش لا وزن لها ولا قيمة، وكعناوين الجرائد كلماتها براقة وجذابة لكن مضمونها فارغ كذباب يطير في وجه قارئه، فلا يجنى الناس من ورائها سوى الزنّ ووجع الرأس ونقل العدوى.
استمر الوضع هكذا حتى قرروا العودة إلى ديارهم وليكن في ذلك ما هو كائن، وبينما يستعد أحدهم في التحرك تصفح جواز سفره ليتأكد من صلاحية التأشيرة فوجد شيئا صادما وصرخ بأعلى صوته فانتبه إليه أصحابه وقالوا له: ما الخطب؟ فأعطاهم جواز سفره فوجدوا مكتوب على تأشيرته بخط غير واضح في الأسفل “هذه تأشيرة لا عودة” فنظر كل واحد منهم في جوازه فوجدوا نفس الأمر؛ ألجمتهم الصدمة وتملكهم الحزن حين أدركوا كم كانوا أغبياء حين اتبعوا هذا السياسي الكاذب وشركاه المضلين فخسروا الغربة والوطن معا ولا عزاء لهم.
علي الصاوي: كاتب صحافي وروائي مصري مقيم بتركيا.
نقلا عن موقع: ذات مصر