جريدة

مائة ستة مرت على ألغاء الخلافة العثمانية .

تشير بعض الكتابات التي تناولت السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، وهو الذي كان عاشقا لفنون الأوبرا والمسرح، إلى روايات عن أنه كان يأمر الموسيقيين والكتاب العثمانيين بتغيير النهايات الحزينة للأعمال الفنية لتحل محلها نهايات سعيدة.

 

 

 

 

وسواء صدقت تلك الرواية أم لا، فإن السلطان العثماني، الذي كان معارضوه يصفونه بـ”الطاغية”، لم يستطع رغم سلطاته الكبيرة أن يغير نهاية حكمه أو يجنب السلطنة العثمانية أو مؤسسة الخلافة نهايتهما.

 

 

 

ففي عام 1909 يُخلع السلطان، وبعد ذلك بـ15 عاما، أي قبل مائة عام من الآن، تُلغى الخلافة العثمانية بعد قرون من سيطرة العثمانيين على مناطق عدة في آسيا وأفريقيا وأوروبا

 

 

 

 

 

وفي الثالث من مارس 1924 وافق البرلمان التركي على إلغاء الخلافة الإسلامية ليضع نهاية للخلافة العثمانية.

 

 

 

 

 

فلماذا ألغى المشرعون الأتراك الخلافة العثمانية؟ وهل كان عبد الحميد وأسلافه سلاطين أم خلفاء؟ وما الدور الذي كان يلعبه السلطان العثماني في ذلك الوقت؟

أسئلة كثيرة قد تتقاطع الإجابة عنها مع مواقف حيال قضية العلاقة بين الدين و الدولة بجانب انحيازات سياسية تجاه أحداث معاصرة.

 

 

 

 

خلفاء ومعارضون

 

 

 

 

 

تحدثنا كتب التاريخ الإسلامي عن أن وفاة النبي محمد أعقبتها نقاشات بين المسلمين الأوائل حول من يحق أن له أن يكون على رأس الجماعة الوليدة التي تسعى لتحقيق تطلعاتها الدينية والسياسية، وما هي آلية اختيار من سيخلفه، بل وما اللقب الذي سيحظى به. فهل هو خليفة؟ وخليفة لمن؟ أم هو أمير المؤمنين؟

لكن النقاشات لم تسفر عن إجابات حاسمة عن تلك الأسئلة بقدر ما تحولت إلى خلافات سرعان ما تطورت بدورها إلى معارك.

 

 

 

 

 

فبعد نحو 25 عاما من وفاة النبي، يُقتل الخليفة عثمان بن عفان ليخوض خليفته علي بن أبي طالب حروبا لا تنتهي إلا بمقتله عام 661 ميلاديا.

 

 

 

 

 

ومع تولي معاوية بن أبي سفيان الحكم أمست ولاية العهد في الإسلام تُورث إلى الأقارب، كما كان يحدث في الكثير من المجتمعات الإنسانية في العصور القديمة والوسطى.

 

 

 

 

 

 

وحافظ معاوية ومن جاء من بعده من الحكام الأمويين على استخدام لقب الخليفة، لكن هذا لم يحل دون ظهور حركات معارضة كبرى لحكمهم، وهي حركات امتزج فيها ما هو سياسي بالبعد الديني.

 

 

 

 

 

وجاء سقوط الأمويين عام 750 ميلاديا لتبدأ حقبة جديدة في تاريخ الخلافة الإسلامية لم تخل بدورها من حركات معارضة للحكام الجدد، العباسيين.

دور رمزي

 

 

 

 

 

وبينما تمكنت الخلافة العباسية في بدايتها من فرض سلطتها على مناطق شاسعة، لكن الضعف اعترى حكم العباسيين مع مرور السنوات.

 

 

 

 

 

 

فالخلافة العباسية، التي انتقل مقرها من بغداد إلى سامراء ثم إلى بغداد مرة أخرى، تحولت إلى مجرد رمز ديني بينما سيطر حكام إقليميون على السلطة في ولايات مختلفة، كحال الدولة الإخشيدية في مصر والحمدانيين في الشام.

 

 

 

 

 

بل إن بغداد نفسها كانت خاضعة لسلطة البويهيين طيلة عشرات السنين.

 

 

 

 

 

ومما زاد من ضعف الدولة العباسية سطوع نجم الفاطميين، الذين يدينون بالمذهب الشيعي الإسماعيلي، بداية من القرن العاشر ميلاديا، فقد شكلت خلافتهم تحديا للخلافة العباسية على المستويين الديني والسياسي، إذ ضمت دولتهم في فترات مختلفة شمال أفريقيا ومصر والحجاز والشام.

 

 

 

 

 

وهكذا أمسى ضعف سلطة العباسيين واضحا مع مرور السنوات، فبعد نحو 130 عاما من وفاة هارون الرشيد، الذي يجسد رمزا لقوة سلطان الخلفاء العباسيين، يقوم الحرس في بغداد بخلع الخليفة القاهر و فقء عينيه وسجنه لسنوات قبل أن يطلق سراحه ويعيش حياة وُصفت بالبائسة لدرجة أن هناك روايات تاريخية تقول إنه كان “يستجدي الصدقات أمام المساجد في بغداد”.

 

 

 

 

 

وتواصل تراجع الدور السياسي للخلفاء العباسيين إلى أن اجتاح المغول بغداد وقتلوا الخليفة العباسي المعتصم عام 1258.

 

 

 

 

 

 

وبسقوط بغداد خلا منصب الخليفة لسنوات قبل أن يقرر الظاهر بيبرس، سلطان المماليك، استقدام أقارب للخليفة المقتول إلى القاهرة وتسميتهم خلفاء للمعتصم.

 

 

 

 

وأمسى الخليفة طيلة حكم المماليك، الذي امتد لأكثر من مائتي عام، صاحب دور رمزي تتم الدعوة إليه في المساجد ويصاحب سلاطين المماليك في حروبهم من دون أي دور حقيقي في أغلب الأوقات، بل إن العديد من الملوك والأمراء في مناطق مختلفة ادعوا لأنفسهم حق الخلافة، كما يقول المؤلف البريطاني توماس أرنولد في كتابه “الخلافة”.

 

 

 

 

 

ويرى مؤرخون أن قرار إحياء الخلافة بشكل رمزي على يد المماليك كان يهدف إلى تثبيت شرعيتهم السياسية، خاصة وأنه لم يكن بمقدورهم إعلان أنفسهم خلفاء بسبب نصوص وردت في كتب الحديث الخاصة بالسنة، والتي تحصر الخلافة أو الإمامة في المنتسبين إلى قريش.

 

 

 

 

 

العثمانيون.. سلاطين أم خلفاء؟

وجاءت نهاية المماليك على يد العثمانيين، وهم قادة قبائل تركية نزحت إلى الأناضول قبل أن تتوسع رقعة دولتهم في شرق أوروبا لتتمكن قواتهم في عام 1453 من اجتياح عاصمة الإمبراطورية البيزنطية، إسطنبول أو القسطنطينية، والتي ظلت عصية على الجيوش الإسلامية لقرون.

 

 

 

 

 

وواصل العثمانيون توسيع رقعة سلطانهم حتى تمكنوا عام 1517 من وضع نهاية لحكم المماليك ليسيطروا على الشام ومصر ويدخل السلطان العثماني سليم الأول القاهرة منتصرا.

وبنهاية حكم المماليك انتهى الدور الرمزي للخليفة العباسي، وهو المنصب الذي كان يشغله الخليفة المتوكل على الله.

 

 

 

 

 

ويشير المؤرخ التركي خليل إينالجيك في كتابه “تاريخ الدولة العثمانية” إلى أن السلطان سليم الأول لم يتبن لقب خليفة، ربما إدراكا منه لأهمية شرط الانتساب إلى قريش.

 

 

 

 

وحافظ خلفاء سليم الأول على التمسك بلقب السلطان لكن بعضهم استخدم أيضا لقب الخليفة ضمن ألقاب أخرى إضافية كانت تدل على حقيقة أن السلطان العثماني يترأس إمبراطورية تسكنها أغلبية المسلمين في العالم.

 

 

 

 

 

ويرى مؤرخون أن السلاطين العثمانيين لجأوا إلى التشديد على لقب خليفة ما دعتهم الحاجة إلى ذلك، كحث شعوبهم على القتال.

 

 

 

 

 

 

وسار العثمانيون على درب من سبقوهم في نقل ولاية العهد إلى الأقارب، لكن انتقال الحكم في زمن العثمانيين صاحبته ممارسة دموية استمرت لفترة طويلة وتمثلت في قتل السلطان الجديد لإخوته.

 

 

 

 

 

 

ويقول إينالجيك في كتابه “تاريخ الدولة العثمانية” إن قتل السلاطين لإخوتهم كان في البداية محاولة لتجنب أي حروب أهلية محتملة أو منافسة على الحكم قبل أن تتوسع تلك الممارسة ليأمر السلطان محمد الثالث بقتل إخوته الـ19 بمجرد توليه السلطة عام 1595.

 

 

 

 

 

 

لكن وكما حدث مع أسلافهم، فإن العثمانيين تعرضوا لتحديات منافسين من داخل العالم الإسلامي، لعل من أبرزهم الصفويين في بلاد فارس الذين خاضوا مواجهات طويلة مع العثمانيين. لكن العثمانيين ظلوا القوة الأكبر في عموم العالم الإسلامي طيلة عدة قرون.

 

 

 

 

 

وتمكن العثمانيون من تحقيق العديد من النجاحات العسكرية في أوروبا وأمسوا قوة مرهوبة الجانب، ووصلت قواتهم إلى أسوار فيينا أكثر من مرة.

“رجل أوروبا المريض”

لكن ومع مرور الوقت، كان على الدولة العثمانية مجابهة أوروبا التي استفادت من منتجات التنوير والثورات العلمية في عدة مجالات، بينما لم يشهد العالم الإسلامي ثورات ثقافية مشابهة، كما يشير إينالجيك في كتابه عن تاريخ الدولة العثمانية.

 

 

 

 

 

وبدا واضحا منذ القرن الثامن عشر أن ميزان القوى ليس في صالح العثمانيين ودولتهم.

 

 

 

 

ويمكن أن يمثل الموقف من المطبعة والكتاب المطبوع دليلا على اتساع الهوة بين أوروبا والدولة العثمانية، بل والعالم الإسلامي، وهو الذي كان قبل قرون خلت يمثل أحد ابرز المراكز العلمية في العالم.

 

 

 

 

 

فبينما بدأت الطباعة في أوروبا في منتصف القرن الخامس عشر، لم تسمح الدولة العثمانية إلا لأفراد محدودين من أقليات دينية بإنشاء عدد محدود من المطابع بينما استمرت عملية نسخ الكتب بالطريقة اليدوية.

 

 

 

 

 

وفي عام 1729، أي بعد 280 عاما من بدء طباعة الكتب في أوروبا، تم إنشاء أول دار طباعة تعود ملكيتها لمسلمين، لتستمر لنحو 14 عاما قبل أن تتوقف عن العمل، لتعود بعد ذلك بعشرات السنوات مع رفع القيود على حركة الطباعة.

 

 

 

 

 

ومع حلول القرن التاسع عشر بدأت أصوات تعلو داخل الدولة العثمانية مطالبة بإصلاحات كبيرة، خاصة في ظل التراجع العسكري العثماني اللافت أمام القوى الغربية والجارة روسيا.

 

 

 

 

ومما زاد من متاعب العثمانيين تزايد الشعور القومي في أوروبا، ما أذكى الحركات التي تدعو للتخلص من الحكم العثماني مدعومة من قوى غربية أو روسية.

فالصرب واليونان يثورون على الحكم العثماني وينجحون في الحصول على الاستقلال في النصف الأول من القرن التاسع عشر، ثم يتكرر الأمر في أكثر من دولة في شرق أوروبا على مدار نفس القرن.

 

 

 

 

 

كذلك فإن الدولة العثمانية التي كانت قادرة على مدار قرون على وقف أي توسع غربي في مناطق الشرق ذات الأغلبية الإسلامية، أمست في القرن التاسع عشر عاجزة عن حماية ولايتها الإسلامية.

 

 

 

 

 

فمصر تُحتل من قبل نابليون وجنوده لمدة ثلاث سنوات، وتعود فرنسا وتحتل الجزائر ثم تونس بعد عشرات السنين.

 

 

 

 

 

 

ومما زاد من ارتباك المشهد السياسي في داخل الدولة العثمانية أن الدولتين الاستعماريتين الأكبر في العالم، بريطانيا وفرنسا، كانتا هما من دعمتا العثمانيين ضد الروس في أكثر من مرة، لعل أبرزها حرب القرم.

 

 

 

 

 

في المقابل فإن القوى الغربية كانت ترى في الدولة العثمانية “رجل أوروبا المريض”، وتباينت الآراء حيال الموقف منها بين فريق يدعو إلى القضاء عليها وتقسيم ممتلكاتها وفريق آخر يدعو إلى دعمها لمواجهة المطامع الروسية.

 

 

 

 

 

وفي ظل هذه التحديات يقرر عدد من السلاطين العثمانيين إدخال إصلاحات قانونية وإدارية، عرفت بالتنظيمات.

 

 

 

 

 

لكن تلك الإصلاحات لم تتمكن من إيقاف متاعب الدولة العثمانية المتواصلة لدرجة إعلان السلطات في إسطنبول عجز الدولة عن سداد ديونها الخارجية عام 1875.

السلطان عبد الحميد الثاني

 

 

 

 

 

 

 

وفي ظل هذا الأجواء يتولى عبد الحميد الثاني منصب السلطان العثماني عام 1876، ويدشن عهده بإقرار دستور ليبرالي وتشكيل برلمان.

 

 

 

 

 

 

 

لكن التجربة الدستورية العثمانية لم تستمر طويلا إذ يقرر عبد الحميد حل البرلمان وتعليق الدستور ونفي الزعماء الإصلاحيين بعد نحو عام فقط من بدء الحرب الروسية ضد الدولة العثمانية عام 1877.

 

 

 

 

ويرى المؤرخ البريطاني يوجين روجان في كتابه “سقوط العثمانيين” إن قرارات السلطان عبد الحميد ترجع في جزء منها إلى عدم تسامحه مع الانتقادات العنيفة التي شنها نواب في البرلمان عليه وعلى حكومته بسبب التعامل مع الحرب الروسية.

 

 

 

 

 

وأثارت قرارات السلطان انتقادات البعض خاصة من قبل الليبراليين والإصلاحيين الذين وصفوه بـ”الطاغية”، لكن عبد الحميد قرر مواصلة الحكم منفردا ونفذ إصلاحات في مجالات التعليم والبنية التحتية.

 

 

 

 

 

كما تبنى السلطان العثماني خطابا دينيا إسلاميا يشدد على أهمية الخلافة، ما أثار اهتمام وإعجاب العديد من سكان الولايات العثمانية خاصة مع التهديد الذي مثله الاستعمار للقيم الثقافية التقليدية.

 

 

 

 

ورغم أن رقعة الدولة العثمانية واصلت التراجع مع احتلال فرنسا لتونس عام 1881 وبريطانيا لمصر عام 1882، إلا أن عبد الحميد تمكن بعد ذلك من وقف أو إبطاء عملية انكماش سلطان الدولة العثمانية.

 

 

 

 

 

 

وشهد حكم عبد الحميد توترا بين الدولة العثمانية والأرمن سرعان ما تطور إلى أعمال عنف راح ضحيتها أعداد كبيرة من الأرمن- إذ تتراوح التقديرات ما بين عشرات الآلاف إلى مئات الآلاف- ما جعل الصحف الغربية تطلق على عبد الحميد لقب “السلطان الأحمر”.

 

 

 

 

 

كما ارتبط عهد عبد الحميد بإرث دولة بوليسية توسعت في التجسس على معارضيها بشكل كبير، لكن هذه الممارسات لم تكن كافية لمنع نهاية تلك الحقبة.

الباشوات الثلاثة

 

 

 

 

 

تمكن أعضاء جمعية الاتحاد والترقي المعارضة، التي ضمت ضباطا ومثقفين وطلابا ثوريين ذوي أفكار قومية تركية، من إشعال انتفاضة شعبية أجبرت السلطان عام 1908 على تقليص صلاحياته وإعلان عودة العمل بالدستور وتشكيل برلمان مثّل أنصار الاتحاد والترقي -الاتحاديين- الأغلبية فيه.

 

 

 

 

 

وتسارعت الأحداث بشكل كبير في إسطنبول، فعودة الحياة الدستورية لم تسفر عن تحقيق الآمال المرجوة بل تدهورت الأوضاع الاقتصادية، وعارض رجال دين أيدلوجية الاتحاديين العلمانية.

 

 

 

 

 

 

كذلك أعلنت بلغاريا استقلالها عن الدولة العثمانية، وضمت الإمبراطورية النمساوية-المجرية البوسنة والهرسك.

 

 

 

 

 

 

هذه الإخفاقات مهدت الطريق لأعداء الاتحاديين الذين قاموا بشن هجوم معاكس في أبريل عام 1909، حيث يتمرد جنود وضباط موالون للسلطان على قادتهم وينضموا إلى رجال دين ويدخلوا العاصمة مطالبين بإبعاد الاتحاديين عن الحكم وإعادة السلطة للسلطان عبد الحميد.

 

 

 

 

 

 

 

لكن سرعان ما قامت قوات عسكرية يقودها ضباط من أنصار التوجهات القومية التركية بالتوجه إلى إسطنبول وقمع انتفاضة أنصار السلطان عبد الحميد الذي صوت البرلمان على خلعه وتنصيب شقيقه محمد رشاد سلطانا تحت اسم محمد الخامس.

 

 

 

 

وبسقوط حكم السلطان عبد الحميد الثاني عام 1909 انتهى الدور الحقيقي للسلاطين العثمانيين حيث سيواصل الاتحاديون السعي للسيطرة على الحكم، ويبرز من بينهم ثلاثة قادة، هم أنور باشا وجمال باشا وطلعت باشا، سيهيمنون على الساحة السياسية للبلاد خلال الأعوام المقبلة التي ستشهد الكثير من التقلبات.

 

 

 

 

 

وبينما نجح الاتحاديون في تنحية السلطان العثماني، فإنهم واجهوا معارضة من قبل الليبراليين الذين كانوا من أنصار عدم الدخول في مواجهات عسكرية مع القوى الغربية أو روسيا حتى لا تخسر الدولة العثمانية المزيد من الأراضي.

 

 

 

 

 

وبدا هذا التباين واضحا خلال الغزو الإيطالي لليبيا عام 1911، فبينما أبدت الحكومة التي يقودها الليبراليون رغبة في عدم مقاومة الغزو الإيطالي قرر الاتحاديون خوض الحرب وإرسال الجنود للدفاع عن ليبيا.

 

 

 

 

وانتهت الحرب بخسارة ليبيا، كما خسرت الدولة العثمانية أراضٍ أخرى في أوروبا، لكن أنور باشا قاد حملة تمكنت من استعادة بعض المناطق من قبضة البلغاريين، مما مهد الطريق أمام سيطرة الاتحاديين على الحكم بشكل كامل.

 

 

 

 

جهاد صنع في ألمانيا

مع إعلان الدولة العثمانية دخول الحرب العالمية الأولى عام 1914 بجانب ألمانيا والإمبراطورية النمساوية المجرية ضد إنجلترا وفرنسا وروسيا، أدرك أصحاب السلطة في إسطنبول أن الدولة العثمانية أمام اختبار صعب ستكون عاقبة الفشل فيه هي نهاية تلك الإمبراطورية.

 

 

 

 

 

جهاد صنع في ألمانيا

ولم تكن المواجهات العسكرية الخارجية فقط شاغل الأتراك، فقد أدت سياسات “التتريك” إلى إثارة حفيظة القوميات الأخرى كالعرب والأرمن ليتطور الأمر إلى انتفاضات كالثورة العربية التي دعمتها بريطانيا أو أعمال عنف كتلك التي وقعت بحق الأرمن وأسفرت عن مقتل أعداد ضخمة منهم.

 

 

 

 

وفي مسعى إلى شن هجوم مضاد على بريطانيا وفرنسا قرر الأتراك وحلفاؤهم الألمان الاستعانة بأيديولوجيا بعيدة كل البعد عن توجهات السلطة الحاكمة في إسطنبول.

 

 

 

 

إذ دُشنت حملة جهادية تدعو المسلمين في المستعمرات الخاضعة لحكم بريطانيا وفرنسا إلى الثورة ضد مستعمريهم نصرة للخليفة العثماني.

 

 

 

 

 

وفي النهاية أخفقت كل تلك المحاولات، إذ خسر معسكر الدولة العثمانية الحرب عام 1918 وبدا المنتصرون مستعدين لوراثة تركة الرجل المريض، التي تم بالفعل ابرام اتفاقيات لتقسيمها أكثر من مرة خلال الحرب – لعل أبرزها اتفاقية سايكس بيكو عام 1916 التي تقسم ممتلكات الدولة العثمانية في الشرق بين بريطانيا وفرنسا وروسيا.

 

 

 

 

 

أتاتورك

ومع خسارة الحرب ودخول الجيوش الأوروبية إسطنبول التي فر منها القادة الاتحاديون، وقفت الحكومة العثمانية والسلطان محمد السادس، الذي تولى المنصب قبل أشهر بعد وفاة أخيه، في انتظار ما ستسفر عنه مداولات المنتصرين.

 

 

 

 

وفي مواجهة وجود الجيوش الغربية في أراضي الدولة العثمانية بدأت تتشكل حركة وطنية تركية لا تعارض خسارة الولايات العربية لكن ترفض تماما أي تقسيم للأراضي “التي تسكنها أغلبية تركية مسلمة، وهي الحركة التي بدأت في الاحتشاد خلف قائد عسكري سيكون له دور مهم في المستقبل، ألا هو مصطفى كمال الذي سيعرف لاحقا بلقب أتاتورك.

 

 

 

 

شارك أتاتورك وهو ضابط شاب في الحرب ضد الإيطاليين في ليبيا قبل أن يبرز اسمه لدوره في النصر العسكري الذي حققته القوات العثمانية على الحلفاء في معركة غاليبولي خلال الحرب العالمية الأولى.

 

 

 

وحظي أتاتورك بتأييد القوميين الأتراك برفضه الأوامر الصادرة من الحكومة العثمانية التي تقضي بتسريح الجيش ليقوم في عام 1919 بتأسيس حركة معارضة للاتفاقيات مع الحلفاء وللحكومة العثمانية، متخذا من مدينة أنقرة مقرا له.

 

 

 

 

وجاءت توصيات مؤتمر سان ريمو ومعاهدة سيفر عام 1920 بوضع سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي وفلسطين والأردن والعراق تحت الانتداب البريطاني ومنح السيطرة على مناطق مختلفة من هضبة الأناضول للأرمن والأكراد لتزيد من الانقسام في تركيا العثمانية.

 

 

 

 

 

وبينما لقيت تلك الشروط ترحيبا من قبل الجماعات غير التركية، فإنها لم تترك للأتراك سوى مساحة صغيرة من الأرض لتتقلص الإمبراطورية العثمانية إلى أجزاء في وسط الأناضول لم يرغب فيها الآخرون، على حد قول المؤرخ البريطاني يوجين روجان.

 

 

 

 

 

وجاء تصديق الحكومة العثمانية على معاهدة سيفر ليثير غضب أتاتورك والقوميين الأتراك.

 

 

 

 

في المقابل، فإن الساسة العثمانيين في إسطنبول كانوا يخشون من أن رفض شروط الحلفاء قد يؤدي إلى مواجهة عسكرية جديدة تخسرها القوات العثمانية وتكون النتيجة خسارة إسطنبول ذاتها.

 

 

 

 

 

وهكذا بدا هناك انقسام كبير بين أتاتورك والقوميين الأتراك من جهة والساسة العثمانيين من جهة لدرجة أن محكمة عسكرية في إسطنبول ستصدر حكما غيابيا بالإعدام على أتاتورك.

 

 

 

 

وخاضت القوات التابعة لأتاتورك حربا ضد الأرمن في القوقاز والفرنسيين في كيليكيا واليونانيين في الأناضول قبل أن تحقق انتصارات كبيرة.

 

 

 

 

وجاءت الانتصارات التي حققتها القوات التركية عام 1923 لتعزز مكانة أتاتورك الذي صار يحظى بدعم النواب الذين انتُخبوا قبل سنوات واستقروا في أنقرة التي أمست مقرا لحكومة منافسة للحكومة في إسطنبول.

 

 

 

 

 

لا سلطنة

وهكذا صبت الانتصارات التركية في مصلحة سلطة أنقرة على حساب الحكومة في إسطنبول، ليدعو أتاتورك، الذي تولى رئاسة البرلمان، وأنصاره إلى توحيد القرار السياسي مطالبا بإلغاء السلطنة كسلطة سياسية مع الإبقاء على منصب الخليفة كرمز ديني.

ط

 

 

 

وينقل الكاتب البريطاني أندرو مانغو في كتابه عن سيرة أتاتورك ما جاء على لسان الزعيم التركي أمام البرلمان عندما طالب بإلغاء السلطنة:

 

 

“سيصبح شعب تركيا أكثر قوة، إذ ستكون دولة حديثة ومتحضرة، ليحقق إنسانيته وهويته من دون التعرض لخطر الخيانة الفردية. ومن ناحية أخرى ستسمو مؤسسة الخلافة باعتبارها همزة الوصل المركزية لروح العالم الإسلامي وضميره”.

 

 

 

 

وهكذا صوت البرلمان التركي في الأول من نونبر 1922 على إلغاء حكومة السلطان العثماني، على أن تكون الخلافة منوطة بالأسرة العثمانية لكن يكون للبرلمان حق اختيار الخليفة، وهو قرار أحجم عدد من النواب عن تأييده.

 

 

 

 

 

وبعد أن أعرب السلطان محمد السادس عن خوفه على حياته على خلفية التطورات الأخيرة، تولى البريطانيون نقله هو وعدد من أفراد عائلته وحاشيته إلى سفينة حربية بريطانية أبحرت بهم إلى خارج البلاد في السابع عشر من نونبر الثاني 1922.

 

 

 

وفي أعقاب هروب السلطان محمد السادس، انتخب البرلمان ابن عمه عبد المجيد الثاني خليفة.

 

 

 

 

 

وأصر أتاتورك على أن يرتدي الخليفة الجديد سترة طويلة وليس جبة أو عمامة أو أي ملابس عسكرية خلال حفل تنصيبه.

 

 

 

 

 

ولا للخلافة

وفي يوليوز عام 1923 يتم إبرام معاهدة لوزان التي حددت شكل تركيا الحديثة.

 

 

 

وفي أكتوبر عام 1923 يتم إعلان الجمهورية التركية ويتولى أتاتورك منصب الرئيس.

 

 

 

 

 

وهكذا استحوذ أتاتورك على المنصب السياسي الأهم في تركيا بينما بقى الخليفة عبد المجيد الثاني في قصره بإسطنبول من دون أي صلاحيات على الإطلاق.

لكن يبدو أن حتى هذه القسمة لم تعد ترضي أتاتورك.

 

 

 

 

ففي دجنبر 1923، تسرب الصحف التركية رسالة وقعها زعماء مسلمون هنود يطالبون فيها الحكومة التركية بالحفاظ على منصب الخلافة، ليستغل أنصار أتاتورك الأمر ويصفون الخطاب بمحاولة التدخل في الأمور الداخلية لتركيا.

 

 

 

 

 

ويوجه أتاتورك سهام النقد لعبد المجيد الثاني قائلا إن الخليفة “يسير على خطى السلاطين السابقين، وإنه على اتصال بالسفراء الأجانب”.

 

 

 

 

وفي الأول من مارس عام 1924 تحدث أتاتورك أمام البرلمان عن أن “الدين الإسلامي سيسمو بالتوقف عن استخدامه كأداة سياسية”.

 

 

 

 

وسرعان ما التقط البرلمان التلميح، حيث تقدم النواب الموالون لأتاتورك في الثالث من مارس عام 1924 بثلاثة مشاريع لإلغاء وزارة الأوقاف وإنشاء نظام تعليم موحد وإلغاء الخلافة.

 

 

 

 

 

ووقف وزير العدل في الحكومة، سيد بك، ليقول إن “الخلافة مترادفة مع السلطة الزمنية. ولا أساس لبقائها بعد انفصالها عن السلطة”.

 

 

 

 

وانتهت النقاشات بتصويت البرلمان بالموافقة على القوانين الثلاثة، ليُجبر الخليفة عبد المجيد الثاني في الرابع من مارس/آذار على مغادرة البلاد.

 

 

 

 

 

ولكن لماذا سعى أتاتورك إلى إلغاء الخلافة وهو الذي كان قد أقر بوجودها كسلطة رمزية تماما قبل أقل من عامين؟

 

 

 

 

يقول الدكتور بشير نافع في دراسته عن إلغاء الخلافة أن الأمر لا يتعلق بحادثة الرسالة التي بعث بها الزعماء الهنود رغم أهميتها، بل هو نتيجة لتوجهات أتاتورك وأصوله الفكرية التي تنتمي إلى حركة الحداثة الفكرية التي رأت في الخلافة العثمانية سببا لضعف البلاد، بجانب سعيه لتغليب القومية التركية كأساس للدولة الوليدة.

 

 

 

 

 

وبعد إلغاء الخلافة حاول عدد من الزعماء في العالم الإسلامي، كالملك فؤاد في مصر والشريف حسين في مكة، إحياء الفكرة لتحقيق مآرب سياسية، لكن تلك المحاولات باءت بالفشل.

 

 

 

 

 

وهكذا فإن تتبع تاريخ الخلافة قد يظهر أن حديث الزعماء والقادة عنها، حتى وإن كان بعضهم يؤمن بالفعل بضرورة اتحاد المسلمين، لا يتطابق مع الفكرة التي تسود في أذهان عدد من المسلمين المؤمنين بها، فهي عند كثير من الملوك والسلاطين ليست سوى أداة لإضفاء شرعية دينية على الحكم.