شهر رمضان يفجر خلافا حادا داخل حكومة الأحتلال .
على مدار السنوات الماضية، كان مستوى التحدي الشعبي للاحتلال الإسرائيلي في القدس يتصاعد بشكلٍ لافتٍ خلال شهر رمضان نظراً إلى كثافة الأعداد التي تؤم المسجد الأقصى لأداء العبادات والصلوات خلال الشهر الفضيل، لا سيما من فلسطينيي الضفة الغربية الممنوعين طوال العام من دخول مدينة القدس والمسجد الأقصى، الذين يحبون استغلال هذه الفرصة السنوية إلى أقصى حد، مما ينعكس بالضرورة على رفع الروح المعنوية للمقدسيين الذين يعانون طوال العام من استفراد الاحتلال بهم، فيشعرون خلال رمضان بعودة الحاضنة الطبيعية للقدس، أي مناطق الضفة الغربية الأقرب للمدينة المقدسة، دون إغفال دور فلسطينيي “الخط الأخضر” الذين أضعف الاحتلال وجودهم منذ 2015 بشكل لافت.
في ظل الاحتقان الشعبي الشديد هذا العام مع الحرب الإسرائيلية المجنونة ضد المدنيين في قطاع غزة، فإن رمضان يكتسب نكهةً خاصةً، ويشكل لدى ساسة الاحتلال خطورةً خاصة كذلك.
ولا يكف السياسيون الإسرائيليون عن التلميح والتصريح حول إمكانية اشتعال الأوضاع في القدس وانتشارها خلال الشهر الفضيل، ويلقون بالاتهامات استباقيّاً على حركة حماس بالسعي إلى توتير الأوضاع في القدس والضفة الغربية خلال شهر رمضان، في مسعى على ما يبدو لردع المقدسيين وفلسطينيي الضفة والداخل من أي تحركات ذات طابعٍ مقاوِم أو رافض لما يجري في المسجد الأقصى خلال رمضان تحت طائلة الاتهام بدعم المقاومة الفلسطينية في غزة.
لكن ما يجري في الحقيقة لم يؤثر في ما يبدو على استعدادات الفلسطينيين للشهر الفضيل، ولا يبدو في الأفق أن هذه التهديدات الإسرائيلية نجحت في ردع أو إرهاب الفلسطينيين في المنطقة، ببساطة لأن الاحتقان الشعبي بلغ أقصاه في هذه المرحلة، ولأن إسرائيل تغذي هذا الاحتقان منذ أكثر من خمسة أشهر، فليس من المنطق أن تتوقع أن يؤدي هذا الضغط الشديد إلى لا شيء.
وهذه التخوفات والتوقعات الإسرائيلية كما يبدو هي الأمر الذي بدأ يؤثر في إسرائيل نفسها، بعد أن برزت في الأسابيع الماضية الخلافات الإسرائيلية بشكل غير مسبوق حول كيفية التعامل مع شهر رمضان، خصوصاً في المكان الأكثر حساسيةً، وهو المسجد الأقصى.
وفي الوقت الذي يدفع فيه وزير الأمن القومي المتطرف، إيتمار بن غفير، المسؤول عن الشرطة الإسرائيلية التي تسيطر على مداخل وبوابات المسجد الأقصى، باتجاه التشدد في منع الفلسطينيين من الوصول إلى الأقصى خلال رمضان ضمن سياسة “صفر فلسطينيين”، فإن أجهزة الاستخبارات الداخلية، ومعها الجيش العامل في الضفة الغربية، تضغط باتجاه تخفيف القيود خلال شهر رمضان، وأقول هنا “تخفيف” وليس “إلغاءً”، فالقيود مسألةٌ لا نقاش فيها لدى جميع الدوائر الإسرائيلية.
لكن هذا لا يعجب تيار الصهيونية الدينية المتطرف بقيادة بن غفير وسموتريتش، اللذين أعلنا معارضتهما هذه التوجهات، خصوصاً بعد قرار حكومة نتنياهو استبعاد بن غفير من اجتماعات وقرارت الحكومة في ما يتعلق برمضان، رغم أنه المسؤول عن شرطة الاحتلال المسؤولة مباشرةً عمّا يجري في “الأقصى”، وهذا أمر غير مسبوق في التاريخ الإسرائيلي، ولعل هذا ما جعل وزير التراث المتطرف عميخاي إلياهو يصف ما يجري بـ”إعلان هزيمةٍ لإسرائيل” أمام الفلسطينيين.
والسؤال المطروح هنا: هل يتعمق الشرخ الإسرائيلي الداخلي بين التيار اليميني الذي يشكله بن غفير وشرطته من ناحية، والتيار اليساري الذي تمثله أجهزة الاستخبارات اليوم، ليسهم بدوره في سقوط حكومة نتنياهو؟
يبدو أن نتنياهو يحاول التلاعب بالفريقين والفلسطينيين على حد سواء من خلال اللعب بالألفاظ، ففي الوقت الذي أعلن فيه تقييد حركة الفلسطينيين باتجاه “الأقصى” في رمضان، فإنه أعلن أن لا قيود على سكان القدس والداخل الفلسطيني في الوصول إلى المسجد الأقصى في رمضان، بما يوحي بأنه شيء من التراجع، فماذا يعني هذا التناقض الظاهر؟
الأمر ببساطة تلاعبٌ بالألفاظ، إذ إن إسرائيل أصلاً لا تعتبر أن سكان القدس والداخل فلسطينيين، بل تعتبر أن سكان القدس مواطنين “أردنيين” أجانب، وأن فلسطينيي الداخل هم مواطنون “إسرائيليون” عرب، أما عندما يتكلم هؤلاء الساسة عن “الفلسطينيين” فإنهم يقصرونهم على أهل الضفة الغربية وقطاع غزة لا غير.
بمعنى أن نتنياهو يريد أن يلعب على وترين في الوقت نفسه، فيقيّد حركة سكان الضفة الغربية، ويسمح لسكان القدس والداخل بالوصول إلى المسجد لتفريغ الغضب تدريجيّاً، ويزرع إسفيناً بينهم وبين سكان الضفة الغربية، وفي الوقت نفسه أعلن أن هذا كله يعتمد على الوضع الأمني والتقييمات الأمنية المستمرة، بمعنى أنه هنا يحاول التلويح بالعصا والجزَرة للفلسطينيين في القدس والداخل والضفة كذلك.
نتنياهو لا يستطيع المناورة اليوم إلا ضمن نطاقٍ محدود، فهو لا يزال يعتمد على قاعدته اليمينية التي يتحكم بها سموتريتش وبن غفير، لكنه يعلم أن انفجار القدس، ومن ثم الضفة الغربية، سيشكِّل بالنسبة له كابوساً أكبر من الحرب على غزة، لأنه لن يستطيع توجيه جيشه وقوته بالكامل إلى غزة، مما سيسهم في تخفيف الضغط على المقاومة الفلسطينية بشكل ملحوظ، وهذا الأمر بالنسبة لنتنياهو هو الفشل والسقوط ذاته، إذًا فهو في الحالتين سيسقط، وما يفعله لا يتجاوز محاولة شراء الوقت لعله يتجاوز شهر رمضان بأقل الأضرار.
وهذا يعني أن الكرة الآن في ملعب الشعب الفلسطيني في القدس والضفة والداخل خلال شهر رمضان المبارك، فإن حصل ما يخشاه نتنياهو في رمضان من اضطراباتٍ حقيقية في المسجد الأقصى، فإن الثمن سيكون نتنياهو نفسه.
ورغم أن تيار الصهيونية الدينية يريد الوصول بالفعل إلى حافة الحرب ضمن رؤيته الدينية الخَاصة، لكنه في الوقت نفسه يدرك أن سقوط نتنياهو يعني سقوطه هو من الحكم بلا رجعة في الوقت المنظور.
ولابدّ من أن اليمين المتطرف يحاول التخلص من هذه الأزمة بتوسيع رقعة الصراع دون إسقاط نتنياهو، بما قد يعني اضطراره إلى الاصطدام بالتيار اليساري المعارض له أولاً ليضمن بقاءه في الحكم.
والمحصلة أن مستقبل نتنياهو وبن غفير وسموتريتش وحكومة الاحتلال برمتها اليوم معلَّقٌ على مشنقةٍ سياسيةٍ في ساحات المسجد الأقصى المبارك.