مادلالات تاسيس الشركات الصينية وحدات عسكرية خاصة؟
دخلت الشركات الصينية على خط تشكيل وحدات مسلحة خاصة، واتجه ما لا يقل عن 16 شركة صينية كبرى إلى تشكيل مجموعات خاصة بها. وفي ديسمبر/كانون الأول الماضي أصبحت مجموعة ييلي، التي تُعَدّ أول شركة صينية خاصة كبرى، تنشئ وحدة تابعة لإدارة القوات المسلحة الشعبية في التاريخ الحديث. وتُعرف هذه القوات باسم “القوات المسلحة الشعبية”، وتتكون من المدنيين الذين يحتفظون بوظائفهم العادية.
وعادت هذه الوحدات المسلحة التي تُعَدّ شيئاً نادراً بالنسبة إلى الشركات الصينية إلى الظهور مؤخراً للمرة الأولى منذ حظرها في سبعينيات القرن الماضي، وتتبادر إلى الذهن تساؤلات حول دلالات وأسباب إعادة تشكيلها الآن، وهو ما سنحاول تناوله في هذا المقال.
القوات المسلحة الشعبية بين الحاضر والماضي
تعود وحدات القوات المسلحة الشعبية إلى شركات مملوكة للحكومة، سواء للحكومة المركزية أو لإحدى الحكومات الإقليمية، وبشكل عام توجد على الأقل نحو 15 شركة حكومية شكلت وحدات من القوات المسلحة الشعبية، وفقاً للمصادر الحكومية.
وتتنوع هذه الشركات في مجالاتها، فبعضها شركات تطوير وتشييد عقاري مثل مجموعة بلدية شنغهاي للاستثمار وشركة هايان (Hai’an)، وبعضها صناعية مثل شركة (Mengniu Dairy) ثاني أكبر شركة لمنتجات الألبان في الصين، بالاضافة إلى شركات خدماتية، وتتوزع أيضاً جغرافياً على مستوى المقاطعات. لكن مؤخراً اتجهت مجموعة ييلي، وهي شركة خاصة، إلى تأسيس وحدة تابعة للقوات المسلحة الشعبية، إذ تمتلك الحكومة المحلية في مدينة هوهوت نحو 8.5% فقط من أسهم الشركة.
وستقع وحدة شركة ييلي المُشكَّلة تحت الإشراف المباشر لجيش التحرير الشعبي الصيني في مقاطعة منغوليا الداخلية وتحت إشراف اللجنة الإقليمية للحزب الشيوعي الصيني. وقد أشار هوانغ شيكشانغ نائب الرئيس التنفيذي للمنطقة إلى أن الهدف من تشكيل الوحدة هو بناء قوة دفاعية وطنية مستقرة في الشركة، يمكنها أن تخدم في أوقات السلم وتتعامل مع الطوارئ وتستجيب بسرعة للمتغيرات في أوقات الحرب.
وبذلك تُعَدّ القوات المسلحة الشعبية التابعة للشركات قوات مساعدة للجيش، الذي يُعتبر أكبر الجيوش من حيث القوة البشرية، وبالتالي ستكون متاحة لأداء مهمات متفاوتة ما بين مساندة الجيش والاستجابة للكوارث الطبيعية والمساعدة في الحفاظ على النظام الاجتماعي والاستقرار السياسي وتقديم الدعم خلال أوقات الاضطرابات، وأوضح المتحدث باسم وزارة الدفاع أن الهدف من إنشاء المجموعات في الشركات الحكومية هو “تعزيز تطوير الدفاع الوطني”.
وتاريخياً تشكلت هذه الوحدات قبل تأسيس الجمهورية الشعبية، إذ دعمت الحزب الشيوعي في معاركه المختلفة في عشرينيات القرن الماضي، واتجه الزعيم المؤسس ماو تسي تونغ إلى اعتبار المجموعات المسلحة جزءاً أساسياً من المؤسسة العسكرية الصينية خلال الحقبة من 1949 إلى 1976، كما أسهم في تجنيد عدد كبير من المدنيين فيها.
وقال تونغ وقتها إنه يعمل على تعزيز دفاع البلاد ضد تهديد القوى الإمبريالية، وذلك عندما كان التوتر مرتفعاً مع الولايات المتحدة بسبب تايوان، إلا أن المؤرخين أشاروا إلى أنه استخدمها أيضاً لتعزيز سلطته وأجندته الشخصية. وبعد وفاة تونغ واتجاه البلاد إلى التركيز على النمو والازدهار الاقتصادي، فإن هذه المجموعات اختفت وانهارت تقريباً منذ 1978.
النمو الاقتصادي
شكَّل نموّ الاقتصاد الصيني نموذجاً فريداً على مستوى العالمي، واستطاع الاقتصاد تحقيق معدلات نمو بوتيرة مرتفعة جعلته في المقدمة بشكل دائم من حيث سرعة وتيرة النمو مع بدء الإصلاحات الاقتصادية في نهاية السبعينيات، ولا سميا الموجهة نحو السوق، وأصبحت الصين المحرك الأساسي لنمو الاقتصاد العالمي، إذ شكلت نحو 35% من نمو الاقتصاد العالمي على مدى العقد ونصف العقد الماضي.
لكن المؤشرات الجديدة تشير إلى أن نمو الاقتصاد الصيني خلال العقد الأخير قد دخل في مرحلة تباطؤ طويلة الأمد، الأمر الذي سينعكس على الاقتصاد الجزئي ومختلف القطاعات وبالتالي الشركات في الصين، فالأداء الاقتصادي المتواضع ولا سيما التعافي الاقتصادي منذ جائحة كورونا يُعَدّ مخيِّباً لآمال بكين ويضعها أمام خيارات صعبة في السنوات المقبلة.
ويرجع ذلك في جزء منه إلى أن الصين انتقلت من اقتصاد نامٍ إلى اقتصاد أكثر نمواً وتقدماً، وهي نتيجة حتمية لهذا الانتقال، وكما هو معروف في علم الاقتصاد فإنه كلما اتجه الاقتصاد نحو مستوى التشغيل الكامل أدى ذلك إلى تباطؤ معدل النمو، وهو ما يزيد التحديات أمام الحكومة لاستعادة زخم النمو الاقتصادي، لا سيما أن الصين لا تزال تصف نفسها بأنها اقتصاد نامٍ وناشئ. ويُلاحَظ أن وتيرة النمو السريعة شكلت عاملاً مهماً للاستقرار السياسي والاجتماعي في البلاد في العقود الأخيرة.
الأداء الاقتصادي والاستقرار الداخلي
وبالنظر إلى ما سبق فإن تباطؤ النمو سينعكس على الوضع المعيشي للصينيين، إذ لا يشعر عديد منهم بالنمو المحقق، لا سيما فئة الشباب الذين تجاوزت معدلات البطالة بينهم 21%، بالتزامن مع التعثر في قطاع العقارات، الذي قد ينعكس على باقي الأسواق في البلاد، لا سيما أسواق السلع المرتبطة بالعقارات.
وبالتالي فإنّ إعادة تشكيل القوات الشعبية للشركات قد تعكس رغبة الحكومة في تعزيز إدماج النمو الاقتصادي بالأمن القومي للبلاد، لا سيما في ظل التحديات الداخلية والخارجية التي من المحتمل أن تواجهها البلاد، مع توقع استمرار تواضع الأداء الاقتصادي في السنوات القادمة.
ومع تصاعد التشاؤم على الصعيد الوطني نظراً إلى عديد من التحديات، مثل تباطؤ النمو الاقتصادي وما يترتب على ذلك من تفاقم للوضع المعيشي، فإن هذا التشاؤم قد يعرض البلاد لمخاطر تتعلق بالاستقرار السياسي والاجتماعي.
وفي 2023 تضاعف عدد الاحتجاجات العمالية إلى 1794 احتجاجاً، أي أكثر من ضِعفَي العدد في العام السابق، الذي كان 830، وبالتالي فإن وجود مجموعات خاصة للشركات تحت قيادة الجيش سيسهم في مساعدة الحكومة على مواجهة أي احتجاجات على تردي الوضع أو اضطرابات اجتماعية بصورة أكثر نجاعة.
لماذا عادت هذه الوحدات إلى الواجهة الآن؟
يمكن القول إنَّ عودة تشكيل الوحدات المسلحة الشعبية يعود إلى الصدمات المتتالية التي واجهها الاقتصاد الصيني في السنوات الأخيرة، لا سيما صدمة كورونا التي تركت تأثيراً عميقاً في الاقتصاد الصيني وكذلك العالمي مع ما بات يُعرف بـ”الإغلاق الكبير” لمكافحة انتشار الفيروس، إلى جانب ذلك أزمة ديون شركات القطاع العقاري منذ منتصف 2021، التي تخلّفت عن سداد ديونها، مثل شركة “إيفرغراند” أكبر شركة للتطوير العقاري في البلاد، التي انضم إليها عديد من الشركات الكبرى، إذ تسعى الحكومة للحد من تداعيات الأزمة على الناس العاديين.
وتشير التقديرات إلى أن القطاع العقاري يشكل نحو 30% من حجم الناتج المحلي الإجمالي في البلاد، لذا فإنّ أزمة القطاع العقاري لن تقف عنده وستنتقل إلى باقي القطاعات، وبالتالي فإنّ مثل هذه الصدمات قد يكون عاملاً مهماً لتحفيز الحكومة والشركات للبحث عن قوى أكثر فاعلية، يمكنها المساعدة في الاستجابة لحالات الطوارئ بشكل سريع.
بالإضافة إلى ما سبق فإنّ إعادة تشكيل الوحدات المسلحة قد تكون مرتبطة بسعي الصين إلى تطوير جيشها وتحويله إلى جيش من طراز عالمي، وقد تلعب هذه الوحدات دوراً مهماً في مساندة الجيش من خلال تفويضها في القيام ببعض المهام عنه، لا سيما في ظل تصاعد التوترات الجيوسياسية إقليمياً وعالمياً.
التنافس الإقليمي للتمدد الصيني الخارجي
شكّل التمدد الصيني نحو عديد من مناطق العالم مثل منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا مجالاً كبيراً للتنافس بين الصين والمعسكر الغربي وحلفائه الآسيويين المناوئين للصين، وتحديداً بعد الحرب الروسية-الأوكرانية، وارتفاع وتيرة التنافس الجيوسياسي الدولي.
على سبيل المثال، أعلنت الهند عن خطة لإنشاء ممر اقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا في قمة مجموعة العشرين الأخيرة بدعم من الولايات المتحدة، ويُنظر إليه على أنه منافس لمبادرة الحزام والطريق الصينية.
إنَّ زيادة وحدة التنافس الإقليمي مع قوة صاعدة مثل الهند حليفة واشنطن تتطلب من الصين الاتجاه إلى تعزيز الأمن والدفاع الوطني من خلال مثل هذه القوات التي قد يُستعان بها لبعض المهام في حالات الطوارئ وعند الحاجة.
إنَّ عودة الشركات الصينية لتشكيل وحدات خاصة تحت اسم القوات المسلحة الشعبية تسلط الضوء على المخاوف المتنامية لبكين، سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي، لا سيما في ظل استمرار تواضع النمو الاقتصادي واتجاه الاقتصاد الصيني لتباطؤ طويل الأمد.
كما يُنظر إلى ذلك على أنه قد يكون ناتجاً عن محاولة الحكومة الصينية لتعزيز وجودها في مواجهة الكوارث الطبيعية والاضطرابات الاجتماعية، أو كجزء من جهود الرئيس الصيني شي جين بينغ لتشديد وإحكام قبضة الحزب الشيوعي الحاكم على المجتمع، بما في ذلك على القطاعات الاقتصادية المختلفة.