إن التناقض في هذا التعبير غامض بقدر ما هو مُبهم إلا أنه يتمتع بميزة تبديد الصعوبات في فهم “المجهول الباراغواياني” في عيون الأجانب، ولاسيما غير الأميركيين اللاتينيين.
وفي واقع الأمر فإن هذا البلد غير الساحلي والذي تبلغ مساحته 406 آلاف كيلومتر مربع يقع بين العملاق البرازيلي من الشمال والشرق، وبوليفيا من الشمال الغربي، والأرجنتين من الجنوب.
من أعلى تبدو البلاد عبارة عن مساحة خضراء هائلة ترقد على أحد أهم احتياطيات المياه العذبة في العالم. ويعبرها من الشمال إلى الجنوب نهران. الأول يمنح اسمه للبلد، الباراغواي، والثاني هو بارانا.
بالنسبة لهذا البلد الذي لا يملك ساحلا، يلعب هذان النهران دورا حيويا في الاقتصاد القائم على الفلاحة وتربية الماشية وفي التجارة مع العالم الخارجي.
وبقدر ما قد يبدو الأمر متناقضًا، فإن المسافة التي تفصل الباراغواي عن أقرب خط ساحلي (1300 كيلومتر عن ساو باولو في البرازيل)، لم تمنع هذا البلد من الحصول على ثالث أكبر أسطول تجاري في العالم، بعد الولايات المتحدة والصين.
وبالتالي فإن المقولة الشهيرة كون أن الباراغواي “جزيرة محاطة باليابسة” لم تكن أبدا قريبة من الواقع. فقط أسطول (نهري) بهذا الحجم قادر على ربط جزيرة -من المفترض أنها معزولة- بالعالم، عبر نهري باراغواي وبارانا، اللذين يمران عبر 2600 كيلومتر (ضمن قسمي الباراغواي-الأرجنتين) حتى مصبه بالقرب من بوينوس آيريس، على المحيط الأطلسي.
وهذا الأسطول هو الذي يسمح لمنتجات التصدير الرئيسية للباراغواي (وخاصة اللحوم) بالوصول إلى بلدان بعيدة مثل العراق وألبانيا وغانا والموزمبيق وأنغولا، والتي تستورد ما مجموعه 75 بالمائة من لحوم الدواجن الباراغواي.
وتشتهر لحوم البقر الباراغوايانية بجودتها العالية في الأسواق العالمية، سواء كانت طازجة أو مجمدة، خالية من العظم أم لا، وتقترب مبيعات لحوم البقر في هذا البلد من 800 مليون دولار. ويضع قطيع الأبقار الباراغواي ضمن أكبر 6 مصدرين للحوم في العالم.
هذا البلد ذو التوجه الفلاحي بامتياز بفضل التربة الخصبة ووفرة المياه، هو أيضًا منتج رئيسي لفول الصويا، حيث بلغت صادراته 2.9 مليار دولار.
وتعد الباراغواي أيضًا مصدرًا صافيًا للكهرباء الكهرومائية. وبالإضافة إلى وضعه كحدود طبيعية مع الأرجنتين ومصدر حياة لجزء كبير من أراضي الباراغواي، يعد نهر بارانا مصدر الطاقة لأكبر سد في العالم يتقاسمه مع البرازيل.
ومكنت الكهرباء التي ينتجها سد إيتايبو ثنائي القومية، والذي يمتد بطول 7200 متر وتصل مساحة خزانه إلى 1350 كيلومترا مربعا، الدولة من جني 1.6 مليار دولار.
وبفضل كل هذه المؤهلات الطبيعية، سجل الناتج المحلي الإجمالي في الباراغواي نموا بنسبة 5.4 بالمائة في عام 2023، وتتوقع الحكومة نموا بنسبة 3.8 بالمائة هذا العام.
يرى البعض أن الشعور “الانعزالي” لدى سكان الباراغواي يعود إلى التاريخ المضطرب للبلاد. على مدى السنوات الـ 160 الماضية، كان على الباراغواي أن تواجه حربين مدمرتين، لا تزال آثارهما بادية حتى يومنا هذا.
وفي عام 1864، خاضت الدولة الفتية حربًا ضد “التحالف الثلاثي” المشكل من البرازيل والأرجنتين والأوروغواي. وقد ترك هذا الصراع، الذي استمر ست سنوات، جرحًا غائرًا لدى مواطني الباراغواي. فبالإضافة إلى مقتل 300 ألف شخص في صوف الباراغوانيانيين (60 بالمائة من إجمالي السكان)، تعرضت البلاد للاحتلال العسكري لمدة ست سنوات أخرى من قبل الجيش البرازيلي وبتر 40 بالمائة من أراضيها لصالح البرازيل والأرجنتين.
وتم القضاء على حوالي 90 بالمائة من السكان الذكور البالغين بسبب القتال أو المرض. ويحكي المؤرخون وقتئذ أن الحرب تسببت في كارثة ديمغرافية أخرت بشكل خطير تنمية هذا البلد، لأنه لفترة طويلة كان هناك أربع نساء مقابل رجل واحد في البلاد (وفي بعض المناطق، 20 امرأة مقابل رجل واحد).
بالكاد تعافت الباراغواي من هذه الكارثة الاقتصادية والديموغرافية، ستتعرض للدمار بسبب حرب جديدة ضد بوليفيا منذ عام 1933. وفي نهاية “حرب تشاكو”، كان على البلاد أن تتخلى عن 110 آلاف كيلومتر مربع من الأراضي المتنازع عليها لصالح بوليفيا مع سقوط 35 ألف قتيل بين جنود ومدنيين.
بعد هاتين الحربين المدمرتين مع جميع الدول الجوار، وعواقبهما الإنسانية والاقتصادية، انتهى الأمر بالمخيال الجماعي برسم معالم “جزيرة” الباراغواي بشكل نهائي.
روا باستوس، الذي كان منذ عام 1933 وعلى الرغم من كون سنه لم يتجاوز 15 عامًا، في الطليعة خلال “حرب تشاكو” كمقدم للرعاية الطبية، عرف كيف يفسر معنى هذه المعالم التي تبقي بلاده بعيدة عن محيطها.
وبالإضافة إلى هذه العزلة الجغرافية، يكتشف الساحر الأدبي الباراغواياني روا باستوس عزلة لغوية بين مواطنيه، الذين تتحدث غالبيتهم الساحقة لغة الغواراني، وهي لغة أصلية اعتمدت كلغة رسمية للبلاد منذ عام 1967. وتشكل الباراغواي، المنغمسة في محيط يتحدث الإسبانية والبرتغالية، استثناءً لغويًا في أمريكا اللاتينية.
ومع ذلك، أعلن رئيس الباراغواي، سانتياغو بينا في شتنبر الماضي في الأمم المتحدة أن بلاده “عازمة على الانفصال عن صورتها القديمة المتمثلة في جزيرة محاطة باليابسة “، وترغب في أن تصبح مركزا لوجستيا للقارة الأمريكية.
وقال إن الباراغواي “مورد عالمي للمنتجات الغذائية” و”واحدة من الدول القليلة القادرة على إنتاج الغذاء لسكانها (6 ملايين نسمة) ولأكثر من 100 مليون شخص في العالم”.
طموحها المعلن هو أن تصبح المركز اللوجستي لممر الطريق ثنائي المحيط الذي يربط بين المحيطين الهادئ والأطلسي.
ومن الممكن أن يشكل هذا الممر، إلى جانب طريق نهر بارانا، “شبكة متعددة المناويل” لنقل المنتجات الزراعية والتعدينية إلى موانئ المحيط الهادئ والأطلسي وأيضا لإقبار ذلك الشعور “الجُزُري” لدى البراغوايانيين بشكل نهائي.