نتنياهو حين طالب بعدم الإشارة إلى ما يُقال عنه على شاشات التلفزيون، كان يقصد بذلك الانتقادات التي وُجهّت إليه بسبب موضوع الرهائن الإسرائيليين، خصوصًا وقد سمح بإدخال شاحنتَيّ وقود لقطاع غزّة وهو القرار الذي برّره بأمرين، الاستجابة لطلبٍ أمريكيٍ بهذا الشأن والخوف من تفشي الأمراض بين أهل غزّة وانتقالها من بعد للجنود الإسرائيليين!.. هذا التبرير الذي يقطر عنصريةً وتمييزًا، لم يفطن قائله لدلالاته غير الإنسانية فيما يخوض جيشه الحرب دفاعًا عن “أهل النور ضد أهل الظلام”.
كواحدة من متابعي المؤتمرات الصحفية التي واظب نتنياهو على عقدها منذ عملية “طوفان الأقصى”، كان طلبه الدعم السياسي والشعبي الداخلي جديدًا على أذنّي، فلقد حرص رئيس الوزراء الإسرائيلي في كل مؤتمراته على تأكيد وحدة الصفّ الداخلي خلف حكومته.
لن يستطيع نتنياهو أن يتجاهل الصوت الداخلي الإسرائيلي طويلًا.. ووعده بتحرير جميع الأسرى لم يعد قابلًا للتطبيق
ومع أننا جميعًا كنّا نعلم بالخلافات فيما بين مكونّات هذه الحكومة ومع جهاز الاستخبارات، حول أسلوب إدارة المعارك وكذلك حول المسؤولية عن التقصير الأمني الفادح، إلا أنّ المفردات في كل المؤتمرات الصحفية السابقة كانت بالغة الوضوح في الإشادة بتماسك الجبهة الداخلية. وبالتالي فعندما يتّجه نتنياهو للرأي العام الإسرائيلي بطلب الدعم فإنّ هذا يعني أنّ شيئًا ما قد تغيّر، وهنا يمكن تحديد ثلاثة مصادر محتملة لهذا التغيير، اثنين منها يرتبطان بتفاعل الرأي العام الداخلي مع تطورات الحرب، والثالث يرتبط بتفاعله مع التحرّك في المشهد الدولي على المستوى الشعبي وبدرجة ما على المستوى الرسمي.
فيما يتعلّق بتطورات الحرب، فإنّ المجازفة الإسرائيلية بالاجتياح البرّي لغزّة على خطورتها، كانت تلقى تأييدًا من قطاعٍ كبيرٍ من الإسرائيليين على أمل أنّ هذا الاجتياح يمثَل الطريقة المضمونة لتحرير الرهائن. لكن مع قرابة الشهر على التوغّل البرّي في غزّة اكتشف أهالي الرهائن الإسرائيليين أنّ المجندّة الوحيدة التي تمّ استردادها لم يتمّ تحريرها من بين أيدي الفصائل الفلسطينية المسلّحة بعكس الرواية الإسرائيلية المفبركة، وذلك لأنها أصلًا لم تكن في عداد الرهائن.
أكثر من ذلك، فإنّ وعد نتنياهو بتحرير جميع الأسرى لم يعد وعدًا قابلًا للتطبيق سواء بسبب العدد غير المعلوم من الوفيات بين الرهائن، أو بسبب تعذّر الوصول إليهم بعد كذبة احتجاز رهائن أسفل مستشفى الشفاء. هذا الصوت الداخلي الإسرائيلي لن يستطيع نتنياهو أن يتجاهله طويلًا كما سبق له أن تجاهل المظاهرات العارمة المعارِضة لتعديل قانون السلطة القضائية، وذلك بسبب الاختلاف الجوهري بين القضيّتين، فالعلاقة بين السلطتين التنفيذية والقضائية هي قضية تتعلّق بمدى ديمقراطية النظام السياسي الإسرائيلي، أما المقامرة بحياة الرهائن فانها قضية تتعلّق بمدى قدرة الدولة الإسرائيلية على توفير الأمن لمواطنيها، وهذه غير تلك.
أكثر من ذلك، فإنّ العدد المتزايد من قتلى الجيش الإسرائيلي منذ الاجتياح البرّي للقطاع يعمّق الهاجس من الوقوع في مصيدة غزّة التي حذّر منها أقرب حلفاء إسرائيل قبل تنفيذ الاجتياح، وعلى رأس هؤلاء الحلفاء كانت الولايات المتحدة الأمريكية.
وفي الوقت الذي يتغيّر فيه الداخل الإسرائيلي شيئًا فشيئًا بسبب الضبابية التي تحيط بمستقبل الرهائن، فإنّ البيئة الدولية أيضًا تتغيّر بعد أن استنفدت سرديّة الضحية التي تدافع عن نفسها قدرتها على تبرير مختلَف أشكال انتهاك القانون الدولي الإنساني.
هذا التغيّر كان قد أشار له نتنياهو في المؤتمر الصحفي الذي عقده يوم ١٢ نوڤمبر عندما حذّر من وجود “أقليات تضغط على الزعماء”، وخاطب هؤلاء الزعماء بقوله “لا تستسلموا للضغط، حربنا هي حربكم، وفي هذه الحرب نحن مجبرون على الانتصار”.
أهمية التأثير النسبية تتّضح عندما نقارن المواقف الغربية الرسمية والشعبية بنفسها عند بداية الحرب على غزّة والآن
ولئن كانت الأصوات المعارضة لا زالت تمثّل أقلية في الدول الغربية، إلا أنّ من المهم الالتفات إلى تحركاتها النوعية المناهضة لاستمرار الحرب وتحليل دلالاتها، وكمثال لا ينبغي أن نمرّ مرور الكرام على سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ الدبلوماسية الفرنسية بقيام عدد من سفراء فرنسا في الشرق الأوسط بإرسال رسالة احتجاجية لكلٍ من رئاسة الجمهورية ووزارة الخارجية يطالبون فيها بالوقف الفوري لإطلاق النار، ويجب أن لا نتجاهل العريضة المماثلة التي وقعّها عشرات الآلاف من الكنديين وهي العريضة التي وُصفت بأنها أكبر عريضة من حيث عدد التوقيعات عليها في تاريخ كندا، ولا يجوز إغفال الاحتجاج الذي قام به موظفو قناة “فوكس نيوز” على المعالجة الإعلامية المتحيّزة للحرب على غزّة، هذا دون الحديث عن المظاهرات البريطانية الحاشدة.
هل تؤثّر هذه التحركات النوعية على توجّهات السياسات الخارجية لفرنسا وكندا وبريطانيا؟.. حدث التأثير بالفعل، وتغيّرت لهجة الرئيسَين ماكرون وترودو بالإدانة المعلنة لقتل المدنيين، وأطاح رئيس الوزراء البريطاني ريتشي سوناك بوزيرة داخليته، ولئن كان هذا التأثير ما زال لا يمثّل ضغطًا على إسرائيل، إلا أنّ أهميته النسبية تتّضح عندما نقارن المواقف الغربية الرسمية والشعبية بنفسها عند بداية الحرب على غزّة والآن، ونلمس عمق الاختلاف.
من المهم أن نواصل متابعة المؤتمرات الصحفية لرئيس الوزراء الإسرائيلي ونرصد التطوّر في مفردات خطابه السياسي، بعد اضطراره للقبول بـ”الهدنة” مقابل تحرير بعض الرهائن، انتظارًا لذلك اليوم الذي يقول فيه، إنه اضطرّ لقبول “وقف إطلاق النار” من أجل إنقاذ حياة من تبقّى من الرهائن، وإنه ليوم قريب بإذن الله تعالى.