1. تتعدد التصانيف التي وثق فيها الأدباء والرحالة رحلاتهم إلى أصقاع مختلفة عبر العالم، ما هي في نظرك خصوصية توثيق رحلة الحج بين دفتي كتاب؟
تكتسب الرحلة الحجية خصوصياتها في ارتباط بالتجربة الفعلية التي قام بها الرحالة، لأنه ليس كل من أدى مناسك الحج يكتب رحلته، ثم إن الكتابة عن الحج متاحة للأديب والعالم والفقيه وغيرهم بناء على رغبة شخصية في تسجيل المشاهدات والانفعالات ووصف المسالك والحكي عن الأحداث التي عاشها الحاج وهو في سفر استثنائي إلى مكان له قدسيته ومكانته الروحية الكبيرة في قلوب المسلمين.
وعندما يتم تسجيل هذه التجربة الروحية، يمكن للقارئ اكتشاف الرؤية الشخصية التي نظر من خلالها الرحالة الحاج إلى الآخر، وأيضا معرفة مسارات التنقل وطقوسه خاصة في النصوص الرحلية الحجية المتقدمة زمنيا، ويمكن للقارئ تلمس التحولات الوجدانية والعاطفية التي عاشها الرحالة أثناء القيام بالشعائر.
ومن هذا المنطلق يكون السفر واحدا والكتابة متعددة، وبما أن العصر يعرف تطورا في جميع المجالات سواء على مستوى وسائل النقل أو ظروف الإقامة فإن كل هذا يتمظهر نصيا في النصوص الرحلية الحجية التي تنطبع بروح العصر وخصوصيات المرحلة التاريخية التي كتبت فيها، لهذا تبقى عملية تدوين رحلة حجية ما حاملة دائما لأشياء جديدة مرتبطة بذات الرحالة أو بظروف العصر أو بطريقة تقديم الحاج لتجربته الحجية الخاصة به دون غيره.
2. تزخر الخزانة الوطنية بمؤلفات عديدة كتبها رحالة ودبلوماسيون وأدباء مغاربة عن رحلاتهم إلى الحج قديما وحديثا. ما هي أهم هذه النصوص في نظرك، وما أبرز خصائصها؟
فعلا، تحضر في الخزانة المغربية والعربية، عشرات النصوص الرحلية الحجية، وعلى امتداد القرون الماضية، لأن السفر إلى الحج لم ينقطع أبدا. ولهذا، فالنصوص وفيرة ومتعددة، وكتبها الفقهاء والأدباء وعلماء الدين خصوصا، ولا يمكن حصر الأسماء والعناوين، لكن يمكننا التمثيل برحلات يمكن اعتبارها مميزة نذكر منها رحلة، إبراهيم السوسي العيني، وابن أبي عسرية أحمد الفاسي الفهري، ورحلة ابن بطوطة، وابن جبير، العياشي، العبدري، وابن جعفر أحد الكتاني، وابن رشيد السبتي، وغيرهم كثير.
ولم يقتصر الأمر على الفترات المتقدمة، بل استمرت عملية الكتابة عن الحج إلى الفترة المعاصرة، ونذكر للتمثيل لا الحصر رحلة الأنتربلوجي عبد الله حمودي، التي عنونها ب”رحلة حج”، والكاتب أحمد المديني له “الرحلة إلى بلاد الله”، والمهندس عبد الناصر مبشور له “يومياتي الحجازية”، والروائي حسن أوريد كتب “رواء مكة”.
3. ما هي خصائص هذه التصانيف في نظركم؟
يمكن القول إن من استطاع من المغاربة القيام برحلة الحج في الأزمنة المتقدمة عاش تجربة روحية شخصية لا تتحقق للجميع ولم تكن متاحة للعموم، ومن هؤلاء من جمع بين الديني والأدبي فكتب رحلته بعد عودته غالبا، لأن الأهل والأحباب يكثرون من السؤال عن أحوال السفر ومشاقه، أحداثه ومغامراته، طقوس الارتحال ومحطاته، وحضارة الآخر وثقافته، مميزاته وأفكاره، وبهذا ينتقل الحكي الشفوي إلى التدوين الكتابي حفظا للتجربة الحجية من الضياع وتوثيقا لرحلة لا تتحقق إلا مرة واحدة في العمر.
وقد هذا أسهم ذلك في تقديم نصوص حجية متنوعة بتنوع مجال اهتمام الرحالة الحاج، فلقد كتبها الفقيه والتاجر والديبلوماسي والأديب وغيرهم. ولهذا يجد القارئ آثارا للفقه والشعر والفتاوى والتأريخ وغير ذلك، في تأكيد على هوية الرحالة الحاج وميدان اهتمامه.
كما كان لهذه الرحلات وعبر جميع العصور الأثر البالغ في تلاقح الأفكار وتبادل المعارف، والتواصل بين المغرب والمشرق وربط جسور التآخي بين الشعوب الإسلامية، تفاعلا وانفتاحا، وهذا أسهم في تشكل هويات متمازجة والتعرف على أعراق جديدة.
4. يرصد المتتبعون للإصدارات الحديثة ندرة في النصوص الرحلية الخاصة بالحج مقارنة بالنصوص التراثية، إلام يعزى ذلك في نظركم؟ وما مقترحاتكم للنهوض بهذا النوع من النصوص؟
نعم، هناك تراجع كبير في المرحلة الراهنة للنص الحجي مقارنة بالفترات المتقدمة، ويعود ذلك لمجموعة الأسباب الموضوعية ترتبط أساسا بالتطور الذي يعرفه العصر، فكلما تيسرت الحياة وتوفرت الظروف المريحة تراجعت عملية الكتابة، لأن السفر في الماضي ليس نفسه اليوم، حيث كان طابع المغامرة والتشويق من أساسيات رحلة الحج، ولهذا كان الرحالة يكتب قديما ليحكي عن سفره المتعِب والاستثنائي معرِّفا بتجربته ومقدما صورة عن الآخر الذي لم نكن نعرف عنه أي شيء، لكن اليوم أصبح كل شيء متاحا، ووسائل النقل مريحة، مما غيب حس المغامرة والتشويق، كما أن قدرة التكنولوجيا على تقديم المشاهد والمناسك والطقوس ونقل أجواء الحج بشكل مباشر ساهمت في هذا التراجع أيضا.
ورغم ذلك يمكن القول إنه ما دام الحج قائما، فالكتابة عنه لن تتوقف. ومن بين الحلول التي يمكن اعتمادها حتى تبقى للرحلة حيويتها وحضورها الدائمين، أقترح اعتماد تدريسية النص الرحلي في البرامج التعليمية وفي جميع الأسلاك، وتنظيم مسابقات للحجاج عن أحسن نص رحلي حجي، وتعريفهم برواد الرحلة الحجية ونصوصهم، وإنجاز أفلام وثائقية عنهم، مما يحفز الحجاج على الحكي عن تجاربهم إلى الحج وتدوينها.
5. ماذا عن واقع البحث الأكاديمي في النصوص الرحلية الخاصة بالحج دراسة وتحقيقا وتحليلا وترجمة؟
إن أي عمل أدبي بصرف النظر عن جنسه وشكله، إذا لم تواكبه الدراسة النقدية والبحث العلمي في تشكله وتطوره، وتلمس خصائصه وقضاياه، والوقوف عند تحولاته يصيبه الجمود والضمور. ويمكن القول وبكل موضوعية إن النص الرحلي الحجي سواء كان مغربيا أو عربيا يحظى عند الباحثين والنقاد المغاربة بالاهتمام الواضح والعناية اللائقة. ويمكن الاستدلال على هذا بالدراسات والأطاريح التي يتم إنجازها سنويا داخل الجامعات المغربية، وحضور المغاربة بشكل في قائمة الفائزين في مختلف دورات جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة التي تنظمها مؤسسة ارتياد الآفاق.
كما تجدر الإشارة إلى العمل الكبير الذي تقوم به المختبرات العلمية داخل الجامعة المغربية، ولعل منشوراتها خير دليل على أدوارها الكبيرة في جعل النص الرحلي الحجي خصوصا حاضرا في المشاريع البحثية والندوات العلمية. وتنضاف إلى ذلك ما تقوم به “الجمعية المغربية للباحثين في الرحلة” التي تحرص على تنظيم لقاءات وندوات وإصدار دراسات ونشر نصوص رحلية وترجمات أيضا.