هي قصة مألوفة؛ حيث تبدأ مجموعة من الحيوانات التي تعيش في المروج المُشجرة، وبطريقة غير متوقعة، بالانتشار في الأرض. في البداية تشغل مكانًا محدودًا في الطبيعة، وتبقى تحت مراقبة أصناف أخرى. ثم يحدث شيء مفاجئ فتجد طريقها للترحال والتنقل لأماكن أخرى. تتأقلم مع أنواع جديدة من الغذاء والبيوت، وتتكيف مع ما لا يمكن التنبؤ به من ظروف. إنها ذكية جدًا، وعدائية كذلك.
مع ازدياد أعدادها وتوسع انتشارها، تُطالِب بالمزيد من المناطق، وتعيد تشكيل مساحتها الطبيعية عبر القضاء على بعض الأصناف ورعاية أخرى. بمرور الوقت تُنشئ مجتمعًا هو الأكبر عددًا على الإطلاق من حيث عدد الأفراد. وعلى حدود مجتمعاتها تلك، تخوض أكثر الصراعات التي عرفها الكوكب فتكًا من حيث عدد الوفيات.
قد تبدو هذه القصة مثل قصتنا، حين عاشت أصناف من أسلافنا أشباه البشر (Hominin) في إفريقيا الاستوائية قبل بضعة ملايين من السنين، وأنشأت مجتمعات عالمية. إلا أنها في الحقيقة قصة مجموعة من أصناف النمل التي كانت تعيش في أمريكا الوسطى والجنوبية منذ مئات السنين. حيث تمكنت هذه المجموعات من الانتشار في كلّ أنحاء الكوكب عبر الالتصاق بشبكات التجارة والاستكشاف والاستعمار والحروب الأوروبية. حتى إن بعضها اختبأ في السفن الشراعية الإسبانية التي تعود إلى القرن السادس عشر، والتي حملت الفضة عبر المحيط الهادئ من أكابولكو إلى مانيلا. وخلال القرون الأربعة الفائتة، صارت هذه المجتمعات عالمية، جنبًا إلى جنب مع مجتمعاتنا.
إن البحث عن نظائر لإمبراطورية الإنسان مغرٍ للغاية، ولربما من المستحيل تجاهل هذا التشابه بين عالم الطبيعة وعالم الإنسان، وباعتباري صحفيًا علميًا، فقد أسهمت بأكثر من حصتي في الحديث عن هذا التشابه، لكن إن كانت الأوصاف تتشابه، فهذا لا يعني أن الموصوفات تتطابق. مجتمعات النمل العالمية أكثر من مجرّد انعكاس لصراعات البشر لأجل السلطة. إن عوالم النمل موجودة على نطاق يمكننا قياسه ولكننا نعاني في الوقت ذاته لفهم حجمه. إذ يُقدر عدد النمل على كوكبنا بما يَزيد بنحو 200 ألف مرة عن عدد النجوم في مجرة درب التبانة، والبالغ عددها 100 مليار نجمة.
في أواخر العام 2022، ظهرت للمرة الأولى في أوروبا وبشكل غير متوقع، أسوأ صادرات أمريكا الجنوبية؛ مستعمرات نمل النار الأحمر (Solenopsis invicta)، وقد ظهرت بجوار نهر بالقرب من مدينة سيراكيوز الصقلية. ما شكل صدمة للناس هو تحديد مواقع 88 مستعمرة في نهاية المطاف. لكن ظهورها في أوروبا متوقع تمامًا، فقد وَجدت أصناف أخرى من هذه النملة طريقها مسبقًا لأوروبا.
ما يثير الدهشة هو فهمنا المحدود للغاية لمجتمعات النمل العالمية. إن ملحمة من الخيال العلمي تحدث تحت أقدامنا. جغرافيا سياسية غريبة تتفاوض عليها 20 كوادريليون [الكوادريليون يساوي مليون مليار] نملة تعيش على الأرض اليوم. ورغم أن الحكاية تبدو مألوفة، إلّا أنه كلما قضيتُ المزيد من الوقت معها، باتت أقلّ ألفة بالنسبة لي، وبتُّ أقل رغبة بتشبيه عالم النمل بعالم البشر؛ فشخصياتها غريبة وموازينها صعبة التصور.
لكن، هل يمكننا أن نحكي قصة مجتمعات النمل العالمية دون أن نعيد سرد قصتنا نحن؟
تتماسك بعض المجتمعات الحيوانية معًا بمعرفة أعضائها بعضَهم خلال تفاعلهم، وباعتمادهم على ذاكرتهم وثقتهم بأصدقائهم فقط، وهو ما يعني أن حجم أفراد هذه المجموعة سيظلّ صغيرًا إذ أنه معتمد على قدرة أفراد المجموعة على الحفاظ على العلاقات الشخصية بين بعضهم. لكن النمل يعمل بشكل مختلف عبر ما يسميه عالِم البيئة مارك موفيت بالمجتمعات المجهولة، حيث يَقبل الأفراد من النوع نفسه بعضهم ويتعاونون حتى وإن لم يلتقوا من قبل. وبحسب موفيت، فإن ما تعتمد عليه هذه المجتمعات هو علامات مشتركة معروفة بين جميع أعضائها.
مجموعة من النمل الناري الأحمر في حقل براكنريدج في أوستن، تكساس. تصوير ألكسندر وايلد.
يختلف التعرف الاجتماعي عند البشر عنه عند الحشرات. حيث يعتمد المجتمع البشري على شبكات من التعاملات المتبادلة والسمعة، تدعمها اللغة والثقافة. بينما تعتمد الحشرات الاجتماعية، كالنمل والدبابير والنحل والنمل الأبيض، على علامات كيميائية للهوية. وتكون عبارة عن مزيج من المركبات الشمعية التي تغطي الجسم لدى النمل، وتُحافِظ على الهيكل الخارجي للنملة مقاومًا للماء ونظيفًا. المواد الكيميائية في هذا المزيج الشمعي القوي نسبيًا مُحددة وراثيًا ومُتقلبة. وهذا يعني أن النمل حديث الولادة يمكنه تعلّم التمييز بين رفاقه والغرباء بسرعة، فيصبح حساسًا للرائحة الفريدة لمستعمرته. لتتم تغذية الحشرات ذات الرائحة المألوفة والعناية بها والدفاع عنها، بينما يُرفَض أصحاب الرائحة الغريبة ويحارَبون.
تشمل قائمة أنجح أنواع النمل الغازي كلًا من النملة الاستوائية (Solenopsis Geminata) ونملة النار الحمراء (S invicta)، ويشترك النوعان في هذه الميزة. ويشتركان كذلك في السمات الاجتماعية والإنجابية. الأعشاش الفردية يمكن لها أن تحوي أكثر من ملكة (على عكس أنواع الحشرات التي يضم العشّ الواحد ملكة واحدة فقط) ويتزاوجن داخل جحورهن. أمّا في الانواع التي لا تملك إلّا ملكة واحدة، فإن الملكات المولودات حديثًا يغادرن العشّ قبل التزاوج. أما في الأنواع الاستعمارية فتغادر الملكة المُتزاوجة عشها سيرًا على الأقدام أحيانًا، لإقامة عش جديد في مكان قريب، مع مجموعة من العمال. وعبر هذه العملية الناشئة تبدأ شبكة من المستعمرات المتحالفة والمترابطة في النمو.
يمكن أن تنمو هذه المستعمرات متعددة الأعشاش إلى بضع مئات من الأمتار عرضًا في مناطقها الأصلية. وتكون محدودة بحواجز فعلية أو مستعمرات نمل أخرى، ما يحوّل المكان إلى خليط من المجموعات المنفصلة التي قد تتقاتل أو تتجنب بعضها، وتتعايش المستعمرات والأنواع دون أن يسود أيٌّ منها على الأخر. أما «المجتمعات المجهولة» للنمل الاستعماري، فإن نقل عدد صغير من الملكات والعمال لمكان جديد يمكن أن يتسبب بانهيار ترتيب هذه المجموعات المستقر نسبيًا. مع إنشاء أعشاش جديدة، تنمو المستعمرات وتنتشر دون رسم حدود على الإطلاق، لأن العمّال من النمل يُعامِلون كل من هو من نوعهم كحليف. وما كان بالسابق خليطًا من العلاقات المعقدة يصبح اليوم نظامًا اجتماعيًا مُبسطًا وموحدًا. تُنسَخ المجموعات المؤسِسة الصغيرة عبر شبكات متنامية من الأعشاش، ويضمن التجانس الوراثي لها تسامح الأنواع الاستعمارية مع بعضها وتوفير عناء القتال. يمكن لهذا النمل أن يعيش في مجموعات أكثر كثافة، وينتشر عبر الأرض كما ينتشر النبات، ويوجه طاقته لالتقاط الطعام والتنافس مع الأنواع الأخرى. كما تُحافظ العلامات الكيميائية على مجتمعات النمل الاستعمارية معًا، وتسمح لها أيضا بالتوسع بسرعة.
جميع أنواع النمل الخمسة المدرجة في قائمة الاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة (IUCN)، التي تضم 100 من أسوأ الأنواع الغريبة الغازية في العالم، هي أنواع استعمارية. ثلاثة من هذه الأنواع: نملة النار الحمراء (S invicta)، والنملة الأرجنتينية (Linepithema humile)، ونملة النار الصغيرة (Wasmannia auropunctata)، جاءت الأصل من أمريكا الوسطى و/أو أمريكا الجنوبية، حيث تتقاسم المساحات الطبيعية نفسها. ومن المرجح أن النوعين الأولين، على الأقل، بدأ توسعهما العالمي منذ قرون على متن سفن خارجة من بوينس آيرس.
يقتات النمل الاستعماري على بقايا الكائنات الأخرى بشكل فظّ ومدهش، حيث يمكنه اصطياد فريسته وتناول الفاكهة والرحيق النباتي، كما يرعى بعض الحشرات للحصول على المادة السكرية التي تفرزها. ويتكيف مع العيش في بيئات مضطربة مثل دلتا الأنهار المعرّضة للفيضانات (عند حصول الفيضانات، ينجو النمل عبر صعوده فوق خط الماء عبر تسلق شجرة مثلًا، أو يجتمع على شكل طوافة ويطفو على السطح حتى ينحسر الفيضان). وبالنسبة له فإن هذا الاضطراب هو شكل من أشكال إعادة ضبط البيئة التي يجب عبرها استصلاح الأراضي. فيتخلى عن الأعشاش البسيطة والضحلة، ويعيد بناءها مُجددًا في وقت قصير. وإن كان يمكن تخيّل صنف يغزو المدن والضواحي والأراضي الزراعية، أو أي بيئة تأثرت بالوجود الإنساني، فمن المحتمل أن يبدو هذا الصنف كنملة استعمارية: خبير اجتماعي من بيئة شديدة التنافس إلى درجة لا يمكن التنبؤ بها.
عندما يظهر هذا النمل في مكان جديد يكون ظهوره هذا واضحًا بطريقة لافتة. على سبيل المثال، في خمسينيات القرن التاسع عشر، وُجِدت النملة ذات الرأس الكبير (Pheidole megacephala)، وشقت طريقها من إفريقيا إلى فونشال، عاصمة ماديرا. اشتكى أحد الزائرين البريطانيين قائلًا إنه يجدها في كلّ مكان؛ في الحلويات، وفي الخضروات وفي الحساء، بل وحتى في المياه المغلية المعدة لغسل اليدين. وعندما انتشر النمل الناري الأحمر (S invicta)، وهو غالبًا أشهر الأنواع الاستعمارية، في المجتمعات الأمريكية المحيطة بميناء «موبيل» في ألاباما في ثلاثينيات القرن العشرين، أحدث فوضى بطُرق عديدة. حيث وصف عالم الأحياء إي. أو. ويلسون نتيجة وصول النمل عام 1958 قائلًا: «بات بعض المزارعين الذين لديهم أرض موبوءة بشدة بالنمل، غير قادرين على استئجار ما يكفي من المساعدة، واضطروا لترك الأرض للنمل». تتسبب النملة النارية الحمراء بأضرار تُقدر بملايين الدولارات كل عام، وتُلحق لدغتها المؤلمة الضرر بملايين الأشخاص. لكن أكبر المستعمرات وأكثرها انتشارًا عالميًا تنتمي للنمل الأرجنتيني (L humile).
إذا نظرنا لتاريخ توسع هذه الأنواع من النمل في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، سيبدو وكأن انتشار التجارة العالمية كان بمثابة مؤامرة من النمل الأرجنتيني للسيطرة على العالم. ظهرت حالة تفشٍ واحدة في مدينة بورتو في أعقاب مَعرض جُزر ومستعمرات البرتغال عام 1894. من المحتمل أن تكون الحشرات قد انتقلت مع المنتجات والسلع المسافرة المعروضة في المعرض من مدينة ماديرا.
في العام 1904، أرسل مكتب علم الحشرات الأمريكي العميل الميداني إدوارد تيتوس للتحقيق في وباء النمل الأرجنتيني في نيو أورليانز. سمعَ شهادات عن زحف النمل إلى أفواه الأطفال وأنوفهم بأعداد كبيرة بحيث يستحيل التخلص منها إلا عبر غمر الرضيع في الماء مرارًا. وعندما وصلت هذه الأنواع إلى «الريفيرا الفرنسية» بعد سنوات، هجر الناس بيوت عطلاتهم وتم إخلاء مستشفى الأطفال.
في كانون الأول عام 1927، وقّع ملك إيطاليا فيتوريو إيمانويل الثالث ورئيس وزرائها بينيتو موسوليني على قانون يحدد الإجراءات التي يجب اتخاذها ضد النمل الأرجنتيني وضرورة تقسيم التكلفة بالتساوي مع الأقاليم التي يتم غزوها. تظهر فعالية الدولة من عدمها، في رواية «النملة الأرجنتينية» (1952) والتي كتبها إيتالو كالفينو، أحد أعظم كتاب إيطاليا في فترة ما بعد الحرب. يروي كالفينو، الذي كان والداه متخصصين في علم الأحياء النباتية، قصته في بلدة ساحلية لم يذكر اسمها، تشبه إلى حد كبير تلك التي نشأ فيها في مقاطعة ليغوريا. لقد صمد النمل بعد موسوليني والنظام الملكي، وأغرق البلدة وحفر تحت الأرض (وفي رؤوس الناس). غمر بعض السكان منازلهم وحدائقهم بالمبيدات الحشرية وبنوا مصائد دقيقة بالاستعانة بالمطارق المغطاة بالعسل، بينما حاول آخرون تجاهل المشكلة وإنكارها.
تعلّم الناس، عندما وجدوا أنفسهم محاصرين بهذه الأوبئة النملية، وضع أرجل أسرتهم وخزاناتهم في صحون من مادة الكيروسين. لكنه لم يكن حلًا طويل الأمد، فمحاولة قتل النملات العاملات بعيدًا عن العش لا تحقق الكثير، لأن معظم النمل يبقى آمنًا في العشّ جنبًا إلى جنب مع الملكات. ومن الممكن أن تكون المبيدات الحشرية ذات المفعول الأبطأ أكثر فاعلية، حيث تأخذه العاملات إلى العش وتطعمه للملكات. ولكن بالنظر إلى أن العاملات من الصنف الاستعماري يمكنها دخول أي عدد من الأعشاش في شبكتها، فإن فرص توصيل الجرعة المميتة إلى الملكة تصبح أقل بكثير.
ما يثير الدهشة هو فهمنا المحدود للغاية لمجتمعات النمل العالمية. إن ملحمة من الخيال العلمي تحدث تحت أقدامنا. جغرافيا سياسية غريبة تتفاوض عليها 20 كوادريليون [الكوادريليون يساوي مليون مليار] نملة تعيش على الأرض اليوم.
كانت بدايات القرن العشرين فترةً مكثفة في حرب البشر ضد النمل. دعا الباحثون في مجال مكافحة الآفات إلى استخدام سموم على نطاق واسع، بهدف تبخير أعشاش النمل والحد منها. حُظِر استعمال هذه السموم كمبيدات حشرية لاحقًا. حاليًا، تكون المبيدات الحشرية فعّالة في تطهير مناطق صغيرة نسبيًا، مثل البساتين والكروم. أمّا عمليات الاستئصال واسعة النطاق فهي مسألة مختلفة، ولم تجرّبها سوى أماكن قليلة. تعتبر نيوزيلندا، الرائدة عالميًا في مكافحة الأنواع الغازية، الدولة الوحيدة التي منعت انتشار النمل الناري الأحمر عبر القضاء على الأعشاش التي تصل إلى المطارات والموانئ عبر البضائع. كما تُعد نيوزيلندا أيضًا موطنًا لكلاب «سبانيل» المدربة على شم أعشاش النمل الأرجنتيني ومنعه من الوصول إلى الجُزر الصغيرة المهمة للطيور البحرية.
يتضاءل تأثير البشر المزعج على الأنواع الأخرى عند مقارنته بتأثير النمل. في العام 1904 وجد تيتوس، وخلال استكشافه لمحيط مدينة نيو أورليانز، أن النمل الأرجنتيني يهيمن على أنواع النمل المحلية. ويحمل جثث المهزومين وبيضهم ويرقاتهم لأكلها. كما تنبه علماء الحشرات في ذلك الوقت إلى أن اختفاء النمل المحلي هو علامة على وصول الغزاة. الأنواع الاستعمارية عدوانية وسريعة العثور على مصادر غذائها وعنيدة بالدفاع عنها، كالنمل الأرجنتيني الذي يقوم بتجنيد عمال آخرين موجودين أصلًا خارج العش، على عكس العديد من أنواع النمل الأخرى، التي تعود فيها النملة العاملة التي تجد مصدرًا للطعام إلى العش، لتجنيد باحثين آخرين عن طعام. لكن الميزة الحقيقية والحاسمة لأنواع النمل المُستعمِرة تكمن في قوتها العددية المُطلقة، والتي عادة ما تحسم صراعات النمل لصالحها، وتبقى وحيدة في المناطق التي تغزوها.
تؤثّر هذه الغزوات على النُظم البيئية، وتكون أحيانًا ذات ضرر مباشر، ففي جُزر غالاباغوس مثلًا، يفترس النمل الناري صغار السلاحف وفراخ الطيور مما يهدد بقاءها على قيد الحياة. وفي حالات أخرى يقع الضرر على الكائنات التي كانت تعتمد سابقًا على النمل المحلي. في كاليفورنيا مثلًا، حلّت النملة الأرجنتينية الصغيرة، التي يقل طولها عادة عن 3 ملم، محلّ الأنواع المحلية الأكبر حجمًا والتي كانت غذاءً للسحالي ذات القرون، ما ترك الزواحف التي لم تتعرف على النمل الغازي الأصغر حجمًا تتضور جوعًا. أمّا في أدغال فينبوس البرية في جنوب إفريقيا، والتي تحتوي على أكثر النباتات تميزًا على وجه الأرض، تنتج العديد من النباتات بذورًا تحمل فقاعة دهنية، ويقوم النمل المحلي بزرع البذور عن طريق حملها إلى أعشاشه، حيث يأكل الدهن ويتخلص من الباقي. في المقابل فإن النمل الأرجنتيني، الذي جُلِبَ حوالي العام 1900 مع الخيول التي شحنتها الإمبراطورية البريطانية من بيونس آيرس لمحاربة البوير، فيتجاهل البذور ويتركها لتأكلها الفئران، أو يجرّد الدهون من مكانها ويترك البذرة على الأرض. ما يصعّب تكاثر النباتات الأصلية في المنطقة، ويقلب التوازن لصالح النباتات الغازية مثل الأكاسيا والأوكالبتوس.
في آخر 150 عامًا انتشر النمل الأرجنتيني في كل مكان يتميز بصيف حار وجاف وشتاء بارد ورطب. تمتد الآن مستعمرة عملاقة واحدة على طول ستة آلاف كيلومتر من الخط الساحلي في جنوب أوروبا، وربما تنحدر هذه المستعمرة مما لا يقل عن ست ملكات. مستعمرة أخرى تمتد على طول ولاية كاليفورنيا. وقد وصلت هذه الأنواع إلى جنوب إفريقيا وأستراليا ونيوزيلندا واليابان، كما وصلت إلى جزيرة القيامة في المحيط الهادئ وسانت هيلانة في المحيط الأطلسي. وتمتد انتماءاتها عبر المحيطات، فالعاملات من قارات مختلفة، عبر الملايين من الأعشاش التي تحتوي على تريليونات من الأفراد، يتقبلن بعضهن البعض بسهولة كما لو أنهن وُلِدن في العش نفسه.
لقد اتحد عمال العالم بالفعل، ولكنهم ليس متحدين تمامًا.
تحمل مجموعات منفصلة من النمل الأرجنتيني علامات كيميائية مختلفة، تتوسّع بالتوازي مع المستعمرة العملاقة الممتدة على مستوى العالم، وهو إرث لرحلات عديدة من الوطن. الأصناف متشابهة، والروائح مختلفة. في الأماكن التي تلتقي فيها المستعمرات المختلفة تُستأنف الأعمال العدائية.
في جنوب كاليفورنيا، تشترك مستعمرة كبيرة جدًا في الحدود مع مجموعة أخرى منفصلة، تُسمى مستعمرة بحيرة هودجز، تبلغ مساحتها حوالي 30 كيلومترًا فقط. وبمراقبة هذه الحدود لمدة ستة أشهر، بين نيسان وأيلول 2004، قدّر فريق من الباحثين أن 15 مليون نملة ماتت على خط المواجهة الذي بلغ عرضه بضعة سنتيمترات وطوله عدة كيلومترات. في أوقات بدا فيها أن كل مجموعة تنتصر وتحرز مكاسب، ولكن على مدى فترات أطول كان الوصول إلى طريق مسدود للصراع هو المُسيطر على المشهد. يعتقد أولئك الذين يسعون للسيطرة على مجموعات النمل أن إثارة صراعات مماثلة قد تكون وسيلة لإضعاف هيمنة النمل الغازي. هناك أيضا آمال في أن الفيرومونات الاصطناعية (أي المعلومات الكيميائية الخاطئة) قد تتسبب في انقلاب أفراد المستعمرة على بعضهم البعض في حال استعمالها.
كلما تعلمتُ أكثر عن النمل تُذهلني غرابته كمجتمع أكثر من تشابهه مع البشر. للنمل طُرق تختلف عن طرقنا لتشكيل مجتمع عالمي، ولست متأكدًا حتى من أننا نمتلك اللغة الكافية للتعبير عنها.
إن مصير المجتمعات الاستعمارية غير واضح على المدى البعيد. وجدت دراسة استقصائية لنمل ماديرا بين عامي 2014 و2021، أنه وعلى عكس المخاوف من أن يمحوَ النمل الغازي الجزيرة من الأنواع الأخرى، لم توجد في الجزيرة إلّا أعداد قليلة منه. النمل الغازي عُرضة للانهيارات السكانية لأسباب غير مفهومة، ولكنها قد تكون مرتبطة بالتجانس الجيني، حيث تحتوي مُستعمرة واحدة من النمل الأرجنتيني في موطنها الأصلي، على قدر من التنوع الجيني مماثل لذاك الموجود في مستعمرة النمل في كاليفورنيا الكبرى، وكما هو الحال في الأنواع الأخرى من الكائنات، فإن هذا يجعلها عرضة للأمراض. مسألة أخرى قد تؤثر على مصير المجتمعات الاستعمارية، وهي احتمالية تفضيل تطوّر «العمال الكسالى» من النمل في المستعمرات، بسبب عدم قدرة النمل على تمييز من يمكنه مساعدتهم، وبالتالي ازدهار الكسالى عبر استغلال جهود رفاقهم بالعش. وعلى الرغم من عدم وجود أمثلة، إلا أن هذا النموذج من التوزيع غير المتكافئ للعمل قد يؤدي إلى الانهيار الاجتماعي.
في حال عدم انقلاب الانتخاب الطبيعي ضدهم، فإن إحدى أكثر طرق كبح نشاط النمل الاستعماري فعالية هي نمل استعماري آخر. في جنوب شرق الولايات المتحدة، منعَ النملُ الناري النملَ الأرجنتيني من تشكيل مستعمرة واحدة ضخمة، وأعاد المشهد إلى خليط من الأنواع المختلفة. إلا أنه في جنوب إفريقيا، كان أمام النمل الأرجنتيني قرن كاملٌ لترسيخ وجوده. لذا، حتى لو اكتسبت النملة النارية موطئ قدم في أوروبا، فليس هناك ما يضمن أن الديناميكية نفسها ستحدث هناك. يتم الآن استبدال النمل الناري الأحمر بالنمل المجنون الأسمر (Nylanderia fulva) في جنوب الولايات المتحدة، وهو نوع آخر أتى من أمريكا الجنوبية ويتمتع بحصانة ضد سم النمل الناري.
من اللافت ارتباط وصفنا لتاريخ توسع النمل باللغة التي نستعملها عند الحديث عن الحروب والصراعات البشرية. ويبدو أن أغلب المراقبين، من علماء وصحفيين وغيرهم، لم يحاولوا استخدام أوصاف بديلة أصلًا. دائمًا ما توصف الجهود البشرية للسيطرة على النمل بالحرب، وكذلك المنافسة بين النمل الغازي والنمل المحلي. ومن السهل رؤية سبب هذه المقارنة بين السلوك الاستعماري للإنسان والنمل الاستعماري. تمتد الروابط بين الحشرات والبشر لآلاف السنين، لكن ما يراه الناس عن النمل يقول عن الناس أكثر مما يقوله عن الحشرات.
يتم تنظيم خلية النحل على غرار أعشاش النمل، لكن وجهات النظر البشرية لمجتمع النحل تميل للمثالية أكثر. في المقابل وعند الحديث عن النمل، فإن الاستعارات غالبًا ما تميل نحو الاستقطاب السياسي، فإما أن توصف على أنها شبيهة بالمجتمعات الشيوعية، أو تقدم على أنها مماثلة للأنظمة الفاشية. حتى إن أحد علماء تحسين النسل الأمريكيين في منتصف القرن العشرين، استخدم النملة الأرجنتينية للمحاججة في قضية مراقبة الهجرة والسيطرة عليها.
إضافة إلى الخلط غير الموفق بين ما هو الحال عليه طبيعيًا، وما يجب أن يكون عليه سياسيًا، فإن رغبتنا بأنسنة حياة النمل من الممكن أن تؤدي إلى أن تكون رؤيتنا لتاريخ الطبيعة محدودة. في الأرجنتين عادة مؤكدة يمارسها النمل العامل بقتل تسعة أعشار ملكاته في كل ربيع بهدف التخلص من القديم وإفساح المجال للتجديد. وهذا العادة كفيلة بردع أوجه الشبه بين مجتمعات النمل والبشر.
كلما تعلمتُ أكثر عن النمل تُذهلني غرابته كمجتمع أكثر من تشابهه مع البشر. للنمل طُرقٌ تختلف عن طرقنا لتشكيل مجتمع عالمي. لست متأكدًا حتى من أننا نمتلك اللغة الكافية للتعبير عنها. مثلًا قدرة المستعمرة على أخذ أجزاء من المعلومات من آلاف الأدمغة الصغير وتحويلها إلى صورة موزعة ومُحدثة باستمرار لعالمها، حتى إن كلمة «رائحة» تبدو غير كافية لوصف قدرة قرون استشعار النمل على قراءة المواد الكيميائية، سواء في الهواء أو لدى بعضها البعض. كيف يمكننا أن نتخيل حياة يكاد لا يُستخدم فيها البصر، وتُشكل الرائحة القناة الأساسية للمعلومات، وتشير العلامات الكيميائية إلى الطريق للغذاء أو للحشد للتصدي للتهديدات أو حتى لتمييز العاملات عن الملكات والأحياء عن الأموات؟
إن انتشار مجتمعات النمل بهذا الحجم هو تذكير للبشر بعدم الخلط بين التأثير والسيطرة. قد نكون قادرين على تغيير بيئتنا، لكننا نعجز عندما يتعلق الأمر بالتلاعب بعالمنا ليصبح بالطريقة التي نريدها بالضبط.
تحوّل عالمنا إلى ما هو أشبه بعالم للكائنات الفضائية، إلا أن محاولة التفكير ككائنات فضائية ستكون طريقًا أفضل للعثور على الخيال والتواضع اللازمين لمواكبة التغييرات، لا للبحث عن طرق تجعل الأنواع الأخرى تشبهنا. محاولة التفكير كنملة بدل التفكير في الكيفية التي يشبه بها النمل البشر، لا تعني أنني أقبل ملوك العالم السفلي من الحشرات الاستعمارية.
أبرز الكوارث التي تسببها مجتمعات النمل العالمية تَكمن في الطريقة التي تتمكّن فيها الأنواع الاستعمارية من إحداث تغيير هائل في التنوع البيئي عند وصولها لمكان جديد. يستطيع النمل الاستعماري تحويل خليط من المستعمرات التي أنشأتها أنواع مختلفة من النمل إلى منطقة تهيمن عليها مجموعة واحدة. ونتيجة لذلك تصبح المجتمعات البيئية المعقدة أبسط وأقل تنوعًا، والأهم أقل اختلافًا عن بعضها.
هذه حقبة جديدة، وتوصف الفترة الحالية التي يتوسع فيها عدد صغير نسبيًا من الحيوانات والنباتات فائقة الانتشار عبر الأرض بالـ«متجانسة» (Homogecene). وهي ليست كلمة مُبهجة، لأنها تنبئ ببيئة تُفضل الحيوانات والنباتات والميكروبات الأخطر. يساهم النمل الاستعماري في خلق مستقبل أكثر تجانسًا، لكنه يخبرنا كذلك بقدرة الحياة على الإفلات من قبضتنا، بغض النظر عن الطريقة التي قد نحاول فيها تنظيم العالم واستغلاله. هناك شيء يبعث على الأمل في ذلك، على الأقل بالنسبة لكوكب الأرض، وإن لم يكن بالنسبة لنا.
إن انتشار مجتمعات النمل بهذا الحجم هو تذكير للبشر بعدم الخلط بين التأثير والسيطرة. قد نكون قادرين على تغيير بيئتنا، لكننا نعجز عندما يتعلق الأمر بالتلاعب بعالمنا ليصبح بالطريقة التي نريدها بالضبط. يذكرنا عالم النمل بأنه من الصعب معرفة كيف ستستجيب الأنواع الأخرى لإعادة تشكيلنا للعالم.
إن كنا سنأخذ عظة ما من قدرة النمل على السخرية من غطرسة الإنسان، فمن الصعب تجاوز قصة بيوسفير 2. كان المقصود من هذا المشروع العملاق الموجود في صحراء أريزونا، أن يكون بمثابة تجربة كبرى. وقد صُمّم ليكون نظامًا حيًا مكتفيًا ذاتيًا، يسكنه ثمانية أشخاص، دون أي صلة بجو العالم أو مياهه أو تربته. بعد فترة وجيزة من بدء عملياته في عام 1991، وَجدت النملة السوداء المجنونة (Paratrechina longicornis)، وهي نوع استعماري أصله من جنوب شرق آسيا، طريقًا للدخول للمكان، وأعادت تشكيل المجتمع المصمم بعناية في الداخل، وحوّلت المكان إلى مزرعة من المن.
من الممكن أن تكون كارثة وأعجوبة في الوقت ذاته.