شهد المشهد السياسي الفرنسي زلزالًا جديدًا بسقوط حكومة فرانسوا بايرو، لتدخل فرنسا مرحلة من عدم اليقين السياسي تفتح الباب أمام سيناريوهات متعددة حول تشكيل الحكومة المقبلة وهوية رئيس الوزراء. هذا التحول لم يقتصر تأثيره على الداخل الفرنسي فقط، بل امتد ليشعل شهية المراقبين الإقليميين، لاسيما في الجزائر، التي ترى في هذه التطورات فرصة قد تكون سانحة لإعادة التموضع واستعادة زمام المبادرة في علاقاتها المتوترة مع باريس.
وترجع جذور الأزمة الحالية بين البلدين إلى قرار الرئيس إيمانويل ماكرون بالإعتراف بسيادة المغرب على الصحراء الغربية، وهو القرار الذي أحدث صدمة في العاصمة الجزائرية، ودفعها إلى تبني خطاب تصعيدي حاد، وجَّهت خلاله سهام النقد مباشرة نحو وزير الداخلية الفرنسي، برونو لوبريو الذي ، معتبرة إياه خصمًا رئيسيًا ورمزًا لإرث “الجزائر الفرنسية”، وربطت بشكل غير مسبوق مستقبل العلاقات الثنائية بوجوده في منصبه.
غير أن الرسائل الجزائرية اصطدمت بجدار فرنسي صلب، حيث تجاهلت باريس تلك المطالب ورفضت أي محاولة للتدخل في خياراتها السياسية الداخلية. بل وتطور الموقف الفرنسي ليتحول من رد فعل إلى مقاربة استباقية أكثر صرامة، تحمّل النظام الجزائري المسؤولية الكاملة عن التدهور الحاصل في العلاقات، مما مثل تحولًا جوهريًا في الاستراتيجية الفرنسية التقليدية.
في مواجهة هذا الجمود، يبدو أن النظام الجزائري لا يزال يعقد آمالًا على معادلة اليسار الفرنسي. فبحسب المراقبين، تراهن الجزائر على عودة قوى اليسار إلى سدة الحكم في باريس، باعتبارها حليفًا تاريخيًا يمكن أن يشكل متنفسًا سياسيًا ويعيد فتح القنوات الدبلوماسية المغلقة. إلا أن متانة هذا الرهان تبدو هشة، خاصة بعد التصريحات الأخيرة للنائبة الأوروبية عن حزب “فرنسا الأبية” ، ريما حسن، التي انتقدت بشدة الخلط بين القضية الفلسطينية ونزاع الصحراء، واعتبرته “خطأ استراتيجيًا يضر بمصداقية الخطاب الجزائري”، مما يكشف عن وجود خلافات حتى داخل المعسكر اليساري نفسه حول هذه الملفات.
اليوم، تتجه جميع الأنظار نحو قصر الإليزيه والتشكيلة الحكومية المقبلة. بالنسبة للجزائر، فإن أي تعديل وزاري جوهري، خاصة إذا ما تم إبعاد الوزير المثير للجدل لوبريو عن وزارة الداخلية، قد يُستغل كذريعة للإعلان عن انفراج نسبي واستعداد للعودة إلى طاولة الحوار. ولكن في النهاية، تبقى المعطيات مفتوحة على جميع الاحتمالات. فالسياق الفرنسي الداخلي لا يزال مضطربًا وغير مستقر، والمشهد الجيوسياسي في المغرب العربي والعالم يشهد تحولات متسارعة لا تسمح بمناورات دبلوماسية سهلة. المرحلة القادمة هي اختبار حقيقي لإرادة الطرفين، وإما أن تكون فرصة للالتقاء في منتصف الطريق، أو مفترق طرق يزيد من الهوة بينهما.